برنامج تدبر القرآن
الخميس 27/02/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
لقاء اليوم هو اللقاء السابع، الذي ينظر بشكل أكثر تفصيلاً في "أدوات التدبر" التي ذكرتها مجرد ذكر في أول السلسلة ثم قمنا باستخدامها في اللقاءات السابقة.
أهمية النظر بشكل أكثر تفصيلاً في "أدوات تدبر القرآن" هو من أجل رد الشبهات التي تطلق باتجاهها.
فحول "أداة اللغة" تطلق شبهة أن "لغة القرآن لا تطابق اللغة العربية"؛
وحول "أداة مرجعية القرآن" من القدم أطلق الإخباريون شبهة أن "القرآن علمه عند النبي (ص) والأئمة" وعليه فإن الحديث هو المعول عليه؛
وحول "أداة مرجعية رسول الله (ص)" فإن من يسمون أنفسهم "القرآنيون" يطلقون شبهة أن "الرسول (ص) إنما هو ناقل مبلغ ليس إلا" أي ليس مبيناً؛
وحول "أداة مرجعية خلفاء الرسول (ص)" فإن المسلمين من أهل السنة لا يجعلون لهم دوراً متميزاً واجب الاتباع؛
وحول "أداة مرجعية العلماء" فإن السهام تطلق عليهم من كل حدب وصوب بحيث يحترق الأخضر بسعر اليابس ويتم حذف جهودهم الهائلة عبر القرون إلى درجة تكفيرهم؛
وحول "أداة مرجعية العقل" فإن الكثيرين يقولون أن عقولنا قاصرة عن إدراك القضايا الكلية والتفصيلية، لذلك نعطي العقل إجازة ونتبع ما نسمعه ونتصور أنه صحيحاً، فصاروا ((أتباع كل ناعق))؛
لهذا، فإني وجدته مناسباً أن نعرج على هذه الأدوات وتأصيلها من الكتاب العزيز بشكل رئيس من أجل الاستفادة منها في اللقاءات القادمة بعد وضوح أساسها المتين.
أدوات التدبر
1- اللغة .........................................................
القرآن يصرح بأنه عربي
بسم الله الرحمن الرحيم الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ / يوسف 1-2
وعربيته/عروبته هي في: المفردات + قواعد اللغة + طرق البلاغة
معنى المفردات
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ / النور 64
المعنى الصحيح والخطأ الشائع: واضح أن ((قد يعلم)) تتعلق بـ ((لله)) قبلها، أي أن الله هو الذي يعلم. من الأخطاء الشائعة استخدام كلمة "قد" بمعنى "ربما"، بل لعل هذا هو الاستخدام الأكثر شيوعاً مع الفعل المضارع. أما مع الفعل الماضي فإن الاستخدام صحيح، ولكنه في الفصحى، أما العامية فيندر جداً أن يقول أحد "قد علمت" أو "قد سافرت" لأن المعتاد هو حذف "قد".
المشكلة ليست عند استخدام "قد" مع المضارع عندما يكون الاحتمال وارداً، مثلاً "قد يعلم فلان الأمر"، فالمعنى ممكن ولو كان الاستخدام خطأ. ولكن المشكلة عندما تستخدم عندما يكون الاحتمال منعدماً، ومنها هذه الآية، لأن الله تعالى لا يصدق عليه احتمال العلم أو عدمه، بل هو يعلم قطعاً.
هناك تصبح معرفة معنى المفردة ضرورياً للمعنى – معرفة أن "قد" هي "أداة تحقيق" أي "تحقق الأمر فعلاً"، وعليه فإن ((قد يعلم)) الله تعني "الله يعلم قطعاً". والأمثلة القرآنية متعددة، منها ((قد نرى تقلب وجهك في السماء)).
قواعد اللغة
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ / البقرة 58
لماذا نصبت "سجداً"؟
دون معرفة أن هناك شيئاً اسمه "حال"، يبين ما عليه الفاعل أو المفعول به، فربما لا يستطيع متدبر القرآن تبين التعبير ((وادخلوا الباب سجداً))، ولكنه إذا عرف ذلك فإنه سيعلم أن الأمر الإلهي هو الدخول بهيئة "السجود" (على تفصيل في هذا، إذ كيف يدخل الإنسان ساجداً؟ أكثر الأقوال أنه "الركوع" لأن السجود نوع من الركوع ولكنه الأشد. ولكن لماذا لم يقل "ركعاً"؟ ربما الأكثر منطقية القول أنهم "عندما يصلون الباب فإنهم يسجدون، ثم يقومون للدخول" فيتحقق الأمرين: السجود والدخول).
ولماذا رفعت "حطةٌ"؟
"حطة" مشتقة من "ح ط ط" وهي كلمة مستخدمة قليلاً في الكتابة بالفصحى كما في "حطّت الطائرة"، فكأنما يعتقد أنها كلمة عامية، ولكنها قديمة الاستخدام كما في قول امرؤ القيس:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً**كجلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السيلُ من عَلِ
في الآية الكريمة يطلبون "حطّ خطاياهم/ذنوبهم" وذلك لارتباطها بالمغفرة ((نغفر لكم خطاياكم))، ولكن إذا كانت اسماً يقولونه بدلاً من الفعل مثلاً "اللهم احطط خطايانا" فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعول به منصوب. ولكن إذا علم أن هناك التقدير في القواعد، فيكون التقدير الممكن "هذه حطة"، فتكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره "هذه"، ويصبح المفعول به جملة إسمية "هذه حطة".
ولماذا جزم الفعل "نغفرْ"؟
لا توجد أداة جزم – لم، لا، لام الأمر –، ولا أداة شرط، فلماذا الجزم؟ هو جواب شرط لشرط مقدر على ما قبله. المعنى هنا: "إن قلتم حطة نغفرْ لكم"، فالشرط مقدر من كلمة ((قولوا حطة))، لأنه أمر إن فعلوه – أي تحقق الشرط – يأتي الجواب ((نغفرْ)). وهذا كثير في القرآن، ((أقتلوا يوسفَ أو اطرحوه أرضاً يَخْلُ لكم وجه أبيكم))، أي "إن قتلتم يوسف يخلُ لكم"، فيكون الشرط "إن قتلتم" من ((أقتلوا)) فإن فعلتم يكون الجواب ((يخلُ)).
البلاغة
وهي كثيرة مما وضع تحت قسمي: البيان والبديع، وقد استخدم القرآن الكثير منها، خصوصاً التشبيه والمجاز والكناية. من أمثلة الكناية:
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا / الإسراء 29
من غير المعقول أن الله تعالى يأمرنا بأن لا نرفع أيدينا إلى أعناقنا، فهذا من المباحات الواضحة؛ ومثله أن نبسطها تماماً؛ وعليه فإن الأمر ليس بلفظه ولكنه "كناية" عن أمور أخرى، نتلمسها ما بين قوله ((فتقعد ملوماً محسوراً)) والروايات التفسيرية التي أخبرتنا أن الموضوع هو في الإنفاق ما بين البخل والتبذير. فكأن البخيل يقبض يديه عن العطاء ويقربها إلى جسمه كي لا تذهب إلى غيره وكلما اشتد ذلك كلما كان أقرب حتى وصلت إلى عنقه (لعل ذلك لأنه مكان خروج الروح، فكأنه يشعر أنه عندما يعطي فكأن روحه تذهب معه!)؛ وأما الذي يعطي إلى درجة غير محسوبة تماماً تصفها كلمة "كل" في ((ولا تبسطها كل البسط)) لأنها مفعول مطلق يبين نوع الفعل (المفعول المطلق ثلاثة أنواع: الأول من جنس الفعل فتقول "بسطاً"، الثاني نوعه فتقول "كل البسط" أو "بعض البسط"، الثالث عدده فتقول "مرتين" مثلاً / وهناك ما ينوب عنه فتقول "ولا تبسطها كثيراً" مثلاً). الحالة الأولى – حالة البخل الشديد عن العطاء – تجعلك "ملوماً" عند الناس، وربما كنتيجة "محسوراً" أي خالياً من صداقتهم وودهم؛ والحالة الثانية – حالة العطاء دون حسابات – يجعلك "ملوماً" عند نفسك وربما عند الناس أيضاً بعد انهيار أوضاعك المعيشية، و "محسوراً" من المال الذي يقيم حياتك...
((( تفضلوا بالأسئلة )))
2- مرجعية القرآن نفسه ........................................
الآيات المحكمات
بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ / النور 1
إذاً، هناك آيات "بينات" أي مبينة واضحة نستطيع استجلاء المعنى المطلوب منها، وهذا قسم كبير من القرآن.
القرآن مع القرآن
ولكن هناك آيات تحتاج معرفة مراميها إلى استخدام آليات مختلفة:
- الآيات والمفردات
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ / القيامة 22-23
لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ / الأنعام 103
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ / النمل 35
إن مفردة "ناظرة" الواردة في القرآن الكريم بمعنيين هي التي رفعت المشكلة في التناقض الظاهري بين آية القيامة وآية الأنعام: كيف يمكن "النظر" إلى المولى عز وجل في حين هو ((لا تدركه الأبصار))؟
آية النمل تجعل المعنى "منتظرة". ولكن "تنتظر" ماذا؟
هنا يأتي دور مرجعية العلماء الوارثين من آل محمد (ص)، فيعلمنا الإمام الرضا (ع) أنها "منتظرة عطاء الله ورحمة الله وكرامة الله" جزاء لها على فعلها في الدنيا.
وهذا يناسبه تماماً استخدام "ربها" وليس "إلهها" مثلاً، لأن العطاء مرتبط بالربوبية (في حين أن الألوهية سابقة للخلق والربوبية).
- السياق أو المناسبة أو الموضوع لعدة آيات
غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ / الروم 2-4
هنا السياق واضح في مدخليته في الفهم، لأن الآيات مترابطة فيما بينها بوضوح. مع ذلك، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب العزيز يستمر في عطائه حتى مع فصل الآيات متحدة السياق – ((غلبت الروم)) معلومة تاريخية يمكن الاستفادة منها وحدها؛ ((في أدنى الأرض)) ينظر في المكان الذي وصفه بـ ((أدنى الأرض))، وكيف أن "أدنى" لا يمكن أن تعني "الأقرب" لأن السؤال عندها يبرز: أقرب لمن؟ وعليه، فالمعنى الأفضل لـ "أدنى" هو "الأوطأ"، وهذا من الإعجاز القرآني الذي أخبر أن تلك المنطقة، منطقة البحر الميت هي أوطأ ما في الأرض اليابسة نسبة إلى سطح البحر؛ ثم معلومة أخرى فيها نبوءة ((وهم من بعد غلبهم سيغلبون)) يمكن أخذها وحدها كاملة؛ ثم تأتي الإضافة إلى تلك المعلومة ((في بضع سنين)) لننظر هل حقاً أن ذلك تحقق في مدة ما بين الثلاث والتسع سنين التي تحددها ((بضع))؛ هذا إضافة إلى الإشارة إلى الإطار الأعظم في قضايا المشيئة الإلهية ((لله الأمر من قبل ومن بعد)).
- عدم مناسبة موضوع بعض الآية الواحدة
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ / المائدة 3
فإنه من غير المعقول أن "يأس الكافرين من الدين" أي انقطاع أملهم بالقضاء على الإسلام قد تحقق لأنه قد حرمت الميتة ولحم الخنزير وغيرها مما ذكره صدر الآية؟
ولا أن ذلك مدعاة لعدم الخشية منهم؟
ولا أن هذا فيه "إكمال الدين وإتمام النعمة"، أولاً لأن هذه المحرمات نزل تحريمها في آيات أخرى سابقة على الآية المباركة التي روي أنها نزلت في حجة الوداع على قول أهل السنة، أو يوم غدير خم على قول الشيعة، أي على القولين فهي قبل ثلاثة أشهر أو أقل من وفاة النبي (ص) – أرواحنا فداه –؛ ثانياً لأن إكمال الدين وإتمام النعمة لا يكون في أمور فرعية يمكن أن لا يقع فيها ابتلاء أصلاً، فإن هذه المحرمات يمكن أن لا تكون في سوق المسلمين مما يؤكل مدة عمر الإنسان؛ ثالثاً أن إكمال الدين وإتمام النعمة، أكثر منه "رضا الله تعالى بالإسلام ديناً" لا بد أن يكون متعلقاً بالـ "إسلام" بالمعنى العام من التسليم لله تعالى في كل شيء، وهذا لا بد أن يتعلق بالتسليم للأمر والنهي كله، الأمر الذي نجده صادقاً عند ربطه مع ولاية أهل البيت (ع) التي نزلت في غدير خم، وليس في مسائل فرعية تماماً.
أما لماذا جاء هذا الشطر من الآية في وسطها فهو موضوع آخر طويل يتناول جمع القرآن ونزوله، وفيما إذا كان هذا هو بالضبط كما أمر النبي (ص) في حياته أن يكتب أم هو مما لم يأمر به، فإن هناك اختلافاً في ذلك.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
3- مرجعية رسول الله (ص) ........................................
· بصفته الرسولية
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ / المائدة 92
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا / النساء 61
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ / البقرة 143
هذه الطاعة الثانية المستقلة عن الطاعة الأولى لله تعالى تعني إعطاءه (ص) استقلالية أكبر في هذا، وبالتالي هي أكبر من طاعته في تبليغ النص القرآني ((أطيعوا الله ورسوله))، وأكبر من تلك التي تعطيه استقلالية قليلة ((أطيعوا الله ورسوله)) التي كأنما هي طاعته (ص) في تبيان النص القرآني، فربما تكون هذه ((وأطيعوا الرسول)) طاعته فيما أوحي إليه من غير النص القرآني. والآية تحذر من رفض هذه الطاعة، وترفع عنه (ص) التقصير بقولها أن مسؤوليته هي: البلاغ لما أوحي إليه من قرآن أو من خارجه من الحكمة أو التعليم المتنوع أو الرؤيا وغيرها + المبين الواضح الذي يجعله مفهوماً لكم لتؤمنوا به دون عناد.
وما يدعم هذا الآية الثانية، فإنها تدعوهم إلى: ((ما أنزل الله)) وهو نص القرآن + ((وإلى الرسول)) فبالتأكيد هو غير النص. ثم تصف من يصد عن ذلك بالنفاق، والعياذ بالله. أي أن من يرفض مرجعية الرسول (ص) فيما عدا نص القرآن يسقط في قسم النفاق.
ويستمر الدعم القرآني لهذه المرجعية القاطعة لرسول الله (ص) عندما يصرح أن السبب في تغيير اتجاه القبلة من الكعبة المشرفة إلى بيت المقدس إنما كان لاختبارهم. فإن الأمر كان شديداً عليهم، أولاً لأنهم يعظمون البيت الحرام أساساً، ثانياً كانوا يصلون إليه بعد الأمر بالصلاة، ثالثاً لأن اليهود صاروا يستهزءون بهم ويقولون لهم أن هذا يثبت أن الأصل إنما هو الدين اليهودي. لهذا كان الأمر شديداً على رسول الله (ص) فكان يقلب وجهه الكريم في السماء. هذه الآية الثالثة في أعلاه تثبت أن الأمر إنما كان ليخرج الله تعالى (لأنه ((لنعلم)) ليس عن جهل منه سبحانه ولكن ليخرج لهم فيقيم عليهم الحجة) ما في دواخلهم من حقيقة البخوع للأمر الإلهي باتباع الرسول (ص) مطلقاً كائناً ما كان الأمر، مسمياً من يخالف بأنه ((ينقلب على عقبيه)) نفس الوصف لما حصل لهم يوم أحد ونفس الوصف الذي حذرهم منه بعد موته (ص) ما أشارت إليه الزهراء (ع) في خطبتها لتصف ما فعلوه من ضرب الأمر الرسولي عرض الحائط. وتقول الآية أن الذين لم يحتملوا تغيير القبلة كانت كبيرة عليهم، ولكنها ليست كذلك على ((الذين هدى الله)).
· بصفته النبوية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ / الحجرات 2
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا / الأحزاب 59
الصفة النبوية تتعلق بالأمور الإدارية والإجرائية منه (ص) كرئيس للدولة ومنظم لشؤون المجتمع الوليد. حتى في هذه، يجعل القرآن له (ص) مقاماً مختلفاً عن الناس جميعاً، فيأمر بعدم رفع الصوت فوق صوته (ص) ولا غير ذلك لأن هذا من شأنه ليس فقط إزعاجه (ص) أو عدم احترامه، ولكنه ينتج ((تحبط أعمالكم)) والعياذ بالله في الوقت الذي أنتم لا تعدون ما تفعلونه شيئاً مهماً.
كما نجده في إصدار الأمر الإلهي في هذه الشؤون من خلال النبي (ص) وليس مباشرة، كما في الآية الثانية التي لم تقل "يا نساء النبي وبناته الخ إدنين عليكن الخ" ولكن جعلته أمراً يصدر منه (ص). واللافت أن هذه الجزئية في اللباس الشرعي للنساء جاء بشكل أمر نصيحة واجبة من خلال النبي (ص) في حين أن الأمر في الجزئية الأخرى وهي تغطية الصدر والرقبة بلف الخمار عليهما جاء من الله مباشرة ((وليضربن بخمرهن على جيوبهن))، والذي يمكن أن نستفيد منه أن الأول إنما يتعلق ببعد واحد وهو حماية النساء من الأغراب، في حين أن الثاني يتعلق بهذا البعد كما يتعلق بالبعد الآخر وهو حماية الرجال والنساء معاً من الفتنة.
· بصفته البشرية
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ / الأعراف 157
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا / الأحزاب 37
حتى في صفته البشرية (ص) فإن له مقاماً خاصاً يندرج في مرجعية عامة من الاتباع والتأسي والنظرة العامة إليه (ص). ففي الآية الأولى تذكر "الرسول" ثم "النبي" ثم تذكر "الأمي" أي الصفة البشرية أي الرجل من أهل مكة (أو العرب عموماً) وهو وصف الأميين كما في آيات أخرى. وإذا ما كانت الصفتان الأوليتان يأتي معهما صفات ((آمنوا به)) و ((نصروه)) و ((اتبعوا النور الذي أنزل معه)) فإن الصفة الثالثة، البشرية، يأتي معها ((وعزروه)) أي احترموه، والاحترام ممتد في جميع الحياة في حين أن النصرة تكون في مقاطع منها فقط، والاتباع يكون في مقاطع منها فقط مهما امتدت في الحياة اليومية.
وهكذا قضية تطليق زيد بن حارثة (رض) من زينب (رض) (التي كانت ممتعضة من الزواج منه أصلاً كونه كان عبداً مملوكاً تبناه النبي (ص) في الأصل حتى كان يسمى زيد بن محمد، وهي ابنة عمة النبي (ص)) فإن هذه العلاقة البشرية ما كان يمكن كسر القيود عليها من المجتمع إلا بأن يتعرض إليها النبي (ص) على الحرج الشديد التي فيها بحيث كان يطالب زيداً أن يصبر. منها نستطيع أن نفهم أن لمحمد بن عبد الله (ص) مرجعية بصفته البشرية لأنه صار واجباً على الجميع أن لا يسيروا مع ذلك العرف بأن لا يتزوجوا أزواج أبنائهم بالتبني، الأمر الذي يمتد ليشمل أي أمر آخر يحب الإنسان المسلم أن يهتدي به بهدي النبي (ص) فيما صغر أو كبر من مثل هذه الأمور.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
4- مرجعية خلفاء الرسول (ص)
· من خلال مرجعية القرآن
إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ / المائدة 55
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً / النساء 59
روايات تفسير ابن كثير وحده 10 روايات في أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب (ع) عندما دخل رجل مسجد النبي (ص) يطلب المساعدة وكان علي (ع) يصلي في حالة الركوع فأشار إلى الرجل بيده ليأخذ الخاتم الذي كان يلبسه ففعل الرجل ونزعه من يده؛ علماً أن ابن كثير هذا تلميذ ابن تيمية أشد الناس انحرافاً عن علي (ع) وولده (ع) وشيعته (لهذا تجدون تفسير ابن كثير هو الأوسع انتشاراً منذ عقود حاله حال الكتب التي تروجها الوهابية بعد أن شاء الله تعالى أن يسلطها على المسلمين ليعلم من يتبع الرسول (ص) ممن ينقلب على عقبيه، والحمد لله على الهداية). ولهذا تجدون ابن كثير يروي الروايات ولكن لا يستطيع ترك بعضها دون تعليق، فيقول في واحدة منها " وهذا إسناد لا يفرح به"! أي أيها الشيعة لا تفرحوا بهذه الرواية التي تثبت أن الآية نزلت في صاحبكم (ع)!
المهم، الآية واضحة وضوح الشمس في حصر الولاية، بأداة الحصر "إنما"، في الله تعالى أولاً، ثم الرسول (ص) ثانياً، ثم علي (ع) ثالثاً (لأنه إذا كانت الآية عامة، فإن أي إنسان يستطيع أن يتصدق أثناء الركوع فيصبح ولياً للمسلمين، وعندها تصبح المسألة مشاعاً لكل من هب ودب، فتزيد على الحالة المزرية التي نحن عليها أصلاً في جعل الأمر مشاعاً لكل من استطاع التسلط، بالسيف أو الرمح أو الدبابة والطائرة فيما بعد).
وبما أنها "ولاية" أولاً وموصلة بولاية الله ورسوله (ص) ثانياً، فإنها تستبطن مرجعية اتباع شرعية وعلى رأس جوانبها في تفسير كتاب الله تعالى.
وهذا هو الذي تجمعه الآية الثانية أعلاه: الولاية + الأمر، وتأمر بالطاعة المطلقة. وإلا، فإنه على تفسير "ولاة الأمر" بالحكام يصبح الأمر الإلهي بطاعة المنافقين والفاسقين والمجرمين والظالمين والمنحرفين، وهذا محال على الله تعالى أن يأمر به.
· من خلال مرجعية الرسول (ص)
حديث الغدير: ((مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَهذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ؛ اللهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ)).
مثلما انطلقت المرجعية الرسولية النبوية من القرآن فإن مرجعية ولاة الأمر الشرعيين انطلقت من القرآن في الأصل – كما في الآيتين أعلاه – ثم انطلقت من المرجعية الرسولية التي قلنا أنها واجبة الطاعة بنص القرآن الكريم. هذه المرجعية بينت لنا مراد الكتاب العزيز من ((أولي الأمر)) أو "الأولياء" من آية إعطاء الزكاة أثناء الركوع (ناهيك عن غيرها من آيات) في أحاديث كثيرة، منها الحديث أعلاه الذي جمع عناصر متعددة:
- حدث عام شارك فيه أكبر عدد من التجمع المسلم في حياة النبي (ص) بعد أن خرجوا من مكة بعد حجة الوداع
- خطبة نبوية رسولية تربط الحديث أعلاه بأصول الدين وبتقدم ولاية الرسول (ص) علينا على ولايتنا نحن على أنفسنا
- تطلب بعد هذا إعلان الطاعة بالبيعة لعلي (ع)
- على أساس أن الولاية التي كانت للرسول (ص) علينا امتدت الآن لعلي (ع)
- كما حصل مع الآيات القرآنية التي تحذر من عصيان طاعة المرجعية الرسولية فإن صاحب المرجعية الرسولية يدعو الله تعالى أن يوالي من يوالي الولي المشخص علي (ع) ويعادي من يعاديه.
· من خلال الجمع بين المرجعيتين القرآنية + الرسولية
حديث المنزلة: ((أنتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى، إلاّ أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدِي))
آية: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . أُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي / طه 29-32
يخبرنا النبي (ص) أن منزلة علي (ع) منه كما كانت منزلة هارون (ع) من موسى (ع)، ولا يستثني منها إلا النبوة، ولكنه لا يقول لنا أنها تستبطن ما يلي كذا وكذا، لذا نذهب إلى القرآن الذي قص علينا خبر هارون وموسى (ع)، لنجد أن هارون (ع) كان: وزير + العضد + الشريك في الأمر (يمكن أن نضم "الأخوة" على اعتبار أن النبي (ص) آخى بينه وبين علي (ع) في مكة، ثم نفس الشيء في المدينة كاستثناء فرد لأن مؤاخاة المدينة كانت بين كل مهاجر وأنصاري؛ ولكن للمعترض الحق أن يقول أن هارون (ع) كان أخاً لموسى (ع) من أب وأم ولم يكن علي (ع) كذلك).
الوزير مستشار ومساعد ونائب ومؤد على النبي (ص)، وكان علي (ع) كذلك.
العضد ((أشدد به أزري)) لا نعلم أحداً شد أزر أحد كما فعل علي (ع) مع النبي (ص)، وهذا من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان.
ولكن ((أشركه في أمري)) كيف يكون وكان هارون (ع) شريكاً في تبليغ الخطة الإلهية مع موسى (ع) إلى فرعون، وعلي (ع) ليس نبياً؟ إذاً لا بد أن تكون الشراكة في التبليغ عن النبي (ص) من بعده، الأمر الذي أوضحه النبي (ص) في الكثير مما روي عنه كما في نص الغدير الذي يشكل الإعلان الأخير وليس الوحيد.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
5- مرجعية العلماء ........................................
· من خلال مرجعية القرآن
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ / التوبة 122
العلماء يتعرضون اليوم إلى حملة من جهات متعددة، بعض تفاصيل الحملة صحيح فيما يخص تحجر بعض العلماء، أو عدم قيامهم بما ينبغي من العطاء الفكري المطلوب أو العطاء العملي المنتظر منهم، أو في مواقفهم السلبية تجاه الظالمين أو تجاه المظاهر السلبية في المجتمع، أو حتى في شؤون أخرى لا تنتظر منهم. ولكن الحملة ظالمة في حق الكثيرين منهم، كما هي ظالمة في حق الإطار العلمائي لأنه من غير المعقول أن نتقبل قول هذا وذاك ممن لا نعرف قدراتهم الذهنية ولا دواخل نفوسهم ونواياهم ولا مستوى معارفهم في الوقت الذي نرفض قول العلماء العاملين المجاهدين الذين وقفوا حياتهم فعلاً في خدمة الدين.
وبغض النظر عن هذا، القرآن الكريم ينص على أن القضية العملية الواقعية هي في وجود جماعة قليلة تأخذ على عاتقها – بعد التعلم والتخصص في الأمور الدينية – تعليم الناس وتوجيههم وحل مشاكلهم من خلال الشريعة.
· من خلال مرجعية الرسول (ص) وخلفائه (ع)
روي قول الرسول (ص): ((الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول اللّه ما دخولهم فيها؟ قال: إتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم))
روي قول الرسول (ص) رواية عن الكاظم (ع): ((سائلوا العلماء، وخالطوا الحكماء، وجالسوا الفقراء)).
هذه نصوص تجعل للعلماء المكانة العليا السامية في ائتمانهم على ما بلغه المرسلون (ع)، وهذا من خلال تعلمهم ذلك البلاغ الرسولي من أجل تبليغه إلى الناس – لأن المسألة عملية وليست فكرية بحتة، فالعلم يجب أن يتبعه بذله ونشره –. ولكن بما أن العلماء غير معصومين فلا يؤمن منهم الخطأ والخطيئة وجب التحذير، فكان المعيار ((ما لم يدخلوا في الدنيا))، وهذا الدخول تعرفه هذه الرواية أنه ((اتباع السلطان))، ثم تأمر بالحذر على الدين منهم لأن مثل هؤلاء من شأنهم تخريب الدين، وهو حاصل من بعضهم كما نشهد كل يوم.
الرواية الثانية تأمر بسؤال العلماء ((سائلوا العلماء)). صحيح أن هذا تحصيل حاصل، لأن الجاهل لا بد أن يرجع إلى العالم وإلا سيخبط في دينه خبط عشواء، وهو محاسب في هذا أمام الله تعالى، ولكن واجب الأئمة (ع) التأكيد على هذا لكيلا يقول أحد أني أقول وأعلم وأفتي وهو خلو من الملكات أو الإمكانيات أو المعارف اللازمة.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
6- مرجعية العقل ........................................
· من خلال مرجعية القرآن
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ / آل عمران 190-191
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ / الرعد 19
كم وردت الإشارات والتنبيهات إلى دور العقل في القرآن الكريم، وبأساليب متعددة، منها الآية الأولى ومثيلاتها التي تصف حال البعض في توجههم السليم لمعرفة الحق والخلق، فيذكرون الله ويتفكرون في خلقه ليصلون إلى نتيجة أن هذا لم يكن باطلاً عبثاً فيؤمنون بالمعاد بعد أن آمنوا بالله تعالى؛ ثم تقول أن هؤلاء هم "أولو الألباب" – أي العقول، لأن المقام مقام ربط مع "يذكرون" الذي فيه الجانبان النفسي والعقلي و "يتفكرون" الذي فيه الجانب العقلي.
كما تمدح الذي ((يعلم أنما أنزل)) إلى النبي (ص) من ربه هو ((الحق)) المطلق، مقارنة مع من تصفه بالعمى ((كمن هو أعمى)) والذي لا شك في أنه عمى البصيرة لا عمى البصر لأن الآية تضعه قبالة العلم: ((أفمن يعلم)) ((كمن هو أعمى)). ثم تجعل "التذكر" محصوراً بـ "أولي الألباب"، فكأن "الغافلين" – الذين "لا يتذكرون" – لا يملكون عقولاً يستحقون معها وصفهم بها.
فهذا التشديد على العقل في القرآن يجعل له مرجعية حاسمة، بل هي المرجعية المندسة في غيرها لأن المرء إنما ينظر فيما نزل في الكتاب الآمر بمرجعية القرآن، ومرجعية الرسول (ص)، ومرجعية أولي الأمر (ع)، ومرجعية العلماء، من خلال التفكير والفهم والتحليل واستخلاص النتائج.
· من خلال مرجعية الرسول (ص) وخلفائه (ع)
روي حديث رسول الله (ص): ((لمّا خلق الله العقل، قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر... بعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعزّ عليّ منك... إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وبك أثيب، وبك أعاقب))
وعنه (ص): ((لا فقر أشدُّ من الجهل، ولا مال أعود من العقل))
وعن علي (ع): ((إن الشقيّ من حرم نفسه ما أُوتي من العقل والتجربة))
يخبرنا رسول الله (ص) بقضية حصلت قبل خلقنا، وهي خلق العقل، وكيف أن الله تعالى جعله "أعز الخلق"، وكيف أنه:
يصدر الأمر والنهي له
يجعل الثواب والعقاب عن طريقه.
لأن الأمر والنهي ينزل إلى العقلاء المميزين، فلا أمر ونهي للمجانين أو الأطفال غير المميزين أو الفاقدين لقواهم العقلية لمرض أو حالة مؤقتة كالنوم، وعليه فالأمر والنهي ينزل إلى العقل.
كما أن الثواب والعقاب يأتي نتيجة لما قرره الإنسان في تعامله مع الأمر والنهي – استمع إليه، نظر فيه، قبله أو رفضه، خضع له أو عصاه.
إذاً، المبدأ من العقل والمنتهى إليه، في تحديد الموقف.
الحديث الثاني يجعل العقل = الغنى الأعظم، فعادته أكبر من غيره ((لا مال أعود من العقل))؛ هذا مقابل الجهل = الفقر الأعظم، لأنه لا يوجد فقر أشد لصوقاً بصفة الفقر من الجهل.
أما حديث علي (ع) فينبهنا إلى قضية "التجربة" التي يجعلها مما "يؤتاه الإنسان" لأنه ما من إنسان منذ الطفولة الأولى إلا وهو يتعلم كل يوم من التجارب الكثيرة جداً، وهذا يضيف إلى رصيده في التمييز بين الأشياء، فإذا أضفت إليها العقل صار عنده آلة التمييز الصحيح، فإذا ما فشل في استثمارهما – العقل والتجربة – فإنه ينال صفة "الشقي". وهذا ما نجده عند من تبسط أمامه الأمور بوضوح ولكنه يفشل في الاستفادة منها.
وهكذا، فإن مرجعية العقل تنطلق من هذه الصفات الهائلة التي يفترض أن نعلمها بداهة.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
7- إطار المنهج الصحيح ........................................
· النظر وجمع المعلومات
- في الأطر العامة
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ / آل عمران 137
السنن العامة، في الإنسان، والمجتمع، والخلق كله.
- وفي التفاصيل
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ / العنكبوت 20
المعالم العامة للخلق والعلاقات بين المخلوقات بما يشير إلى وجود الخالق، ثم إلى صفاته كعالم مقتدر مهيمن رازق رحمن رحيم والصفات الربوبية الأخرى، ما يستفاد منه الإشارة إلى إثبات القدرة على إيجاد العالم الآخر فالحساب فالعدل فالثواب والعقاب.
- وفي تفاصيل التفاصيل
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ / الرعد 4
من أمثال هذه الآية الكريمة ما يوجه النظر إلى الدقة في الخلق، والحكمة من ورائه، وعظيم رحمة الله وديمومة المخلوقات منه حصراً.
· سؤال العلماء
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ / النحل 43
قول الرسول (ص) عن الكاظم (ع) الوارد آنفاً: ((سائلوا العلماء، وخالطوا الحكماء، وجالسوا الفقراء))
وهو على بداهته مطلوب كذكر للناس لأن البعض ربما يطغى ويظن أنه مستغن عن السؤال والتثبت مما يعلم أو اكتشف أو جرب؛ كما هو يستبطن النظر في تشخيص العلماء الذين ينبغي التوجه إليهم.
· التفكر والبحث
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ / سبأ 46
عن النبي (ص): ((فكر ساعة خير من عبادة سنة))
هذه الآية العظيمة (التي مرت في محاضرة عن "قل" و "ربما") تعظ الناس بالقيام لله، أي بنية تحصيل العلم من أجل تقوية العلاقة بالله، وفي إطار الفرد إذا كان يملك الإمكانيات الذهنية لذلك، أو في المباحثة مع شخص آخر يثق في نيته وإمكانياته.
هذا التفكر في ساعة واحدة أفضل من عبادة سنة كاملة، لأن التفكر يقود إلى العبادة في حين أن العبادة التي صارت عادة ربما لا تنشئ فكراً أو علماً أو حتى قرباً من الله تعالى.
· لا عناد!
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ / الزمر 17-18
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ / النمل 14
وعن الإمام الهادي (ع): ((العُجْب صارف عن طلب العلم، داعٍ إلى الغَمْط والجهل))
وعلاجه عن الباقر (ع): ((سُدَُّ سبيل العُجْب بمعرفة النفس))
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا / الكهف 103-104
أولاً، الاحتراز من عبادة طاغوت النفس أو طاغوت الآخرين، بل الرجوع إلى الله دائماً، والاستماع إلى ما يطرق السمع من علم أو قول، ثم النظر فيه من أجل اتباع الأفضل منه – هذا يعني الاهتداء كما يعني أن صاحبه يحترم عقله، لأن الناس كلهم لهم ألباب ولكن الآية تطلق الصفة لمن يحترم عقله بأن يتجنب فخاخ النفس وفخاخ الطواغيت، ثم يفعّل الاستماع والنظر والاتباع.
وإلا، فإن النفس المتضخمة، الظالمة لنفسها وغيرها، تتعالى على البخوع للحق، حتى وقد وصلت إلى مرحلة اليقين ((واستيقنتها أنفسهم))، وهذا من الداء العضال المخيف حقاً، وهو السبب وراء الكثير جداً من أمراض المجتمع، من الخلافات الشخصية وحتى الخلافات بين القيادات الدينية والاجتماعية والسياسية على كافة المستويات.
أما إذا ظن الإنسان أنه وصل إلى مرحلة من العلم والقدرة بحيث تطرق الإعجاب بالنفس إليها، عندها يبدأ هذا العلم بالتفلّت منه ليحل محله الجهل، أيضاً غمط نفسه هو من المزيد من العلم.
ولكن من يلتفت دوماً إلى ضعف نفسه، لا سيما بالمقارنة مع قوة المولى عز وجل، هذا يقطع الطريق أمام العُجب والكبر، وعندها يمنع نفسه من السقوط في الغمط والجهل.
أما من ذهب بعيداً في طريق تحت راية ضلالة، سواء من النفس في عجبها وتكبرها، أو باتباع طاغوت من الطواغيت، أو بالتكاسل عن البحث والنظر، وغيرها من آفات، ما محصله الانخداع بما عنده أنه هو الحق، وأسوأ منه إذا أخذ على نفسه "هداية" غيره إلى هذا "الضلال"، عندها يقع في هذه الحالة الخطيرة المخيفة ((يحسبون أنهم يحسنون صنعاً))، أي لا يضمرون في أنفسهم معرفة أنهم على باطل ولكن يظهرون ما يظهرونه لكسب الدنيا، ولكن حقاً يعتقدون أنهم على الحق، هؤلاء يصفهم القرآن بـ ((الأخسرين أعمالاً)). لذا يتوجب الحذر كل الحذر من هذه الحالة، وأهم ما فيه اتباع المنهج الصحيح، وبالذات الحذر من السير وراء المضلين.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
8- إطار التقوى ........................................
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ / البقرة 282
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ / الأنفال 29
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ / التوبة 119
أخيراً، إذا كانت التقوى تشكل إطاراً قوياً يتحرك المرء من خلاله، عندها لا يخشى عليه من السقوط في الكبر والعجب والجهل والضلالة، بل أكثر من ذلك، تصبح التقوى طريقاً إلى المزيد من العلم ((واتقوا الله ويعلمكم الله)).
هذه التقوى، إن حصلت كشرط من الله تعالى ((إن تتقوا الله))، جوابه ((يجعل لكم فرقاناً)) تفرقون به بين الحق والباطل والهدى والضلال والعلم والجهل. هذا ناهيك عن الجائزة الكبيرة الأخرى ((يكفر عنكم سيئاتكم)) وأختها ((يغفر لكم)).
ولعل من أهم مصاديق التقوى أن يكون المرء ((مع الصادقين)) لأنه عندها يعلن أنه لا يستبدل بالذي هو أدنى الذي هو خير... ولعل التدبر في هذه الآية الكريمة ((إتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) يجعلنا نحتمل أن يكون هؤلاء "الصادقين" قوماً مشخصين، خصوصاً وأنه مربوط "بتقوى الله"، فكأنما هناك احتمال من عزوف البعض عن الكون مع هؤلاء الصادقين. بغض النظر عن هذا، الآية تشجع على تحري الصادقين للاصطفاف معهم، وأفضل مصداق للصادقين هم "عترة النبي (ص)" حيث يصفهم علي (ع) بصفة ((ألسنة الصدق)) في قوله ((فأين تذهبون والآيات واضحة والأعلام قائمة والمنار منصوبة؛ فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وفيكم عترة نبيكم، وهم أعلام الدين وأزمة الحق وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش)) إلى آخر قوله (ع).
فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.