برنامج تدبر القرآن
الخميس 06/02/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
لقاء اليوم هو الرابع في القسم الأول من 6 حلقات إن شاء الله، هدفه إعطاء فكرة أفضل لما ندعو إليه من التشجيع على تدبر كتاب الله.
(الأقسام هي: البلاغة، الله تعالى، القرآن، النبي (ص)، أهل البيت (ع)، أقسام الناس، الخلافيات، الابتلاء، مفاهيم مهملة، قُل، إنَّما.) اليوم آيات تقدم لقسمي: الابتلاء، مفاهيم مهملة.
(أولاً) القسم الثامن: الابتلاء – 1
المقصود بـ "الابتلاء" هو الفعل الإلهي الذي يستهدف إدخال العبد في مدة زمنية – طالت أو قصرت – يظهر فيها كيف يتصرف إزاء التحدي الذي يواجهه في خضم ذلك الابتلاء. أي "الابتلاء" – من افتعال – يُظهِر "بلاء" – من فعال – العبد؛ لذلك يقال "ما أعظم بلاء فلان في المعركة" مثلاً.
وبالتالي فإن "الابتلاء" منه "بالحرمان" ومنه "بالعطاء".
آيات التدبر اليوم مشتركة بين قسم "الابتلاء" والقسم التالي "مفاهيم مهملة"، ولكن سأحاول تناولها في قسم "الابتلاء" أولاً ثم في قسم "مفاهيم مهملة" ثانياً بالربط بينهما.
البقرة 152-153
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ |
|
ثم: البقرة 155-157
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ |
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ |
أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ |
((( أما البقرة 154 فبحث منفصل، وإن كانت علاقته واضحة بالآيات الأخرى
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)))
(1) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
هاتان الكلمتان هما النواة لمؤلفات ضخمة! لماذا؟ لأنهما تختصران:
(أ) ما ينبغي على العبد أن يكون عليه في كل حين، أو في أكثر الأحيان، أو على الأقل كلما "استيقظ" من الغفلة
(ب) إستجابة المولى عز وجل لهذا التوجه من العبد.
وهنا أمور:
(أولاً) فائدة لغوية:
يستخدم القرآن الكريم الشرط من قواعد اللغة العربية، ولكن ليس دائماً مع أداة الشرط، أي كما في قوله ((إنْ تجتنبوا كبائرَ ما تنهون عنه نكفّرْ عنكم سيئاتكم)) فكانت جملة الشرط "إن تجتنبوا" وجاء جواب الشرط "نكفر"...
بل يأتي بدون أداة الشرط، كما في قوله ((أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم)) وبما أن "يخلُ" مجزوم بحذف الواو – أي لم يقل "يخلو" – فإنه جواب فعل الشرط "أقتلوا"، فيكون التقدير "إن تقتلوا يوسف يخلُ وجهُ أبيكم"...
ومثله ((فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً))، فالشرط هو ((استغفروا)) والجواب ((يرسل))، فيكون التقدير "إن تستغفروا يرسل"..
ومثلها هاتان الكلمتان – فالتقدير "إن تذكروني أذكركم".
(ثانياً) معنى "ذكرنا إياه" هنا هو الانتباه إلى الله تعالى، أو الالتفات إلى وجوده المقدس في الحياة، فهو عكس الغفلة عنه سبحانه.
أما "ذكره إيانا" فهو الاستجابة لانتباهتنا له وعدم غفلتنا.
أما النقاط الأخرى فبعد قليل في قسم المفاهيم.
(2) وَاشْكُرُواْ لِي
وجدت الناس يسألون لماذا قال ((واشكروا لي)) ولم يقل "أشكروني"، وأجاب البعض أن هذا التعبير يعني "أشكروني واشكروا غيري" مثل ((اشكر لي ولوالديك)) بينما الثاني "أشكروني وحدي"، وهو مردود لأنه لا يمنع أي منهما من حصر الشكر أو نشره؛
والبعض قال أن التعبير يعني "أشكروا لي بالعمل"، ولكن يمكن "أشكروني بالعمل" أيضاً؛
والصحيح هو – وببساطة – أن "اشكروا لي" أفصح! ولكن لأننا اعتدنا على "اشكروني" ولا نستخدم "اشكروا لي" فإن الناس يستغربون فيسألون.
(3) وَلاَ تَكْفُرُونِ
معنى "الكفر" يتأتي من المعنى الأصلي وهو "التغطية. فـ "الكفر العقائدي" هو "تغطية وجود الله. أما "الكفر بالنعمة" فهو "تغطية وجودها". وهنا نستطيع القول أن متعلق ((ولا تكفرون)) هو ((واشكروا لي)) قبلها، فهو إذاً "كفر النعم".
(4) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
فهو نداء لجميع المسلمين.
(5) اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ
هنا أمور:
(أولاً) نلاحظ أنه جاء بـ "الصبر والصلاة" جميعاً فلم يفرق بينهما، مثلاً يقول "واستعينوا بالصلاة" ولا حتى "وبالصلاة"، (وقد ورد في نفس سورة البقرة قبل ذلك آية 45 ((وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)))
وهذا يشير إلى التوجيه بالاستعانة بالاثنين معاً، مثلاً في نفس القضية التي يشعر الإنسان بالحاجة إلى العون.
أو أيضاً: عند الحاجة إلى العون، فإنك لا تستعين بالصبر بين الحين والآخر ولكن تكون صابراً باستمرار، في حين أنه ليس عملياً أن تستمر بالصلاة دون انقطاع؛ وعليه يكون المعنى الممكن: إستعينوا بالصبر حتى انقضاء المحنة + إستعينوا بالصلاة في أثناء ذلك.
النقاط الأخرى في القسم التالي.
(6) إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
إذا كان الله "مع الصابرين" فهذه "المعية" لا يمكن إلا أن تكون "الضمانة الأكيدة للخروج بنجاح من اختبار الابتلاء"، لأنه تعالى (أ) يعينك على الابتلاء ذاته، فإنه ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) (ب) سيكون أكثر قرباً منك، أي أن "مدة الابتلاء" هي مدة تصاعد باتجاه علاقة أقوى مع المولى عز وجل.
(7) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
(أولاً) وعد مؤكد بـ "الابتلاء"، باستخدام "لام التوكيد" أوله + "نون التوكيد الثقيلة" آخره؛ وإلا فهي "نبلوكم" – وهذا استخدام مستفيض جداً في القرآن.
· تنبيه لغوي: البعض ربما لا يفرق بين "لام التوكيد" و "لام التعليل" و "لام الأمر" – الفروق بينها في الحركة وفي المعنى:
لام التوكيد: مفتوحة "لـَ"، لا تؤثر على المعنى إذا حذفت (نبلوا / لنبلوا)
لام التعليل: مكسورة "لـِ"، تجعل الفعل بعدها سبباً ((لِتبين للناس ما نزل إليهم))
لام الأمر: مكسورة "لـِ"، تجعل المعنى أمراً ((ولِيطوفوا بالبيت العتيق))
(ثانياً) المعنى "نبلوا" أي نعرف ماذا ستفعلون، مثل ((ونبلوا أخباركم)).
(8) بِشَيْءٍ مِّنَ
إذاً، هو قليل من، أو بعض مما يمكن أن يكون أعظم وأشد.
واستخدام "من" بمعنى "من نوعه".
(9) الْخَوفْ وَالْجُوعِ
فلن يكون غياب كامل للأمن "بحيث يطبق الخوف"؛ ولا غياب كامل للشبع "بحيث يطبق الجوع"؛ ولكن تأثير على "ما اعتدتم عليه" بحيث تشعرون بالخوف والجوع.
(10) وَنَقْصٍ مِّنَ
هنا، لا بد أن يكون "النقص في النعمة" لأنه ابتلاء.
واستخدام "من" أيضاً "النوع"، ولكن أيضاً "الكمية".
(11) الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
الأموال: الممتلكات، المنقولة وغير المنقولة، النقد وغيره
الأنفس: النقص في الأنفس يحصل نتيجة الموت – وأسبابه متعددة –، كما يحصل نتيجة قلة الولادات أصلاً.
الثمرات: المنتج من العمل، سواء كان زراعياً أو صناعياً أو فكرياً.
إذاً، سيكون الابتلاء شاملاً – الأمن والشبع والممتلكات والناس والإنتاج.
(12) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
ولكن هناك "البشارة" لمن؟ للصابرين، أي الذين يعضون على الآلام من ذلك الابتلاء المتنوع، ولا يتزلزلون...
(13) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ
(أولاً) هذا الاستمرار بكلمة ((الذين)) يستفيد من كلمة "الصابرين" في آخر الآية قبلها؛ ما يعني أن ((وبشر الصابرين)) تقوم بوظيفتين:
(أ) البشارة لمن صبر في مواجهة الخوف والجوع ونقص الأنفس والأموال والثمرات أعلاه
(ب) البشارة لمن صبر في الموقف التالي.
(ثانياً) هذا الموقف هو عند "الإصابة بالمصيبة".
فهل أن "المصيبة" هنا مختصة بـ "مصيبة الموت" حصراً؟
ظاهر الآية لا يدل على الحصر، وكلمة "مصيبة" على وزن "مفعلة" مثل "مدرسة" أي المكان أو الحالة التي ظهر فيها "فعل الإصابة"؛ إذاً، وبلحاظ الروايات التي شملت بوصف "المصيبة" "ما يصيب الإنسان مما فيه معاناة أو ألم أو نقص على أنواعه"، فإن "المصيبة" لا تختص بمصيبة الموت... ولكن...
(14) ولكن ((قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ))
لا نستخدمها في الغالب إلا "عند مصيبة الموت"؛ والربط ليس غير منطقي وذلك لما في هذا القول:
(أولاً) يعلمنا الله تعالى ما نفعل عند نزول المصيبة وذلك بتوصيف ما يفعله الصابرون حينذاك ((قالوا))
(ثانياً) قول جامع للحقيقة كلها ((إنا لله)) + ((إنا إليه راجعون))، فهو الصدق التام، لأن نشأتنا الأولى من الله + أننا مملوكون لله، ثم معادنا إليه
(ثالثاً) وعندها، يحصر الموقف الصعب في أدنى حالة ممكنة عن طريق التذكير بالأصل والمالكية وبالنتيجة. وعليه، فما لنا نجزع عند نزول النازلة وكأن ما ذهب نملك منه شيئاً أو أننا الذي خلقناه أو أننا الذين سيعود إلينا؟
إذاً، هذا التذكير بالنشأة ثم بالمعاد "يربط المصيبة بالموت الذي سيكون المعاد بعده".
(15) أُولَـئِكَ
"أولئك" أقوى من "هؤلاء"، لأنها إشارة من بعيد، ما يعطيهم تفخيماً. فهو نظير قوله تعالى ((أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب))، ويشبه ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) وليس "هذا الكتاب".
(16) عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
"الصلوات" النازلة "عليهم" من "ربهم" التي يحيطهم بها، ليس "الإله"، ولكن "الرب"، بل "ربهم" الذي لم يزل يغذوهم وينعم عليهم ويعينهم على البلوى ويلفتهم إلى الحقيقة أنه هو المالك وهو المصدر وإليه المرجع، ويلفتهم إلى فوائد الصبر.
وأما الـ "رحمة" فهي أيضاً من "الرب" – عطفاً على "الصلوات" – وبالتالي تبشر باستمرار المدد منه تعالى في ذلك الوقت العصيب.
هنا سؤالان:
(الأول) معنى "الصلوات من الرب" هي "إنزال الرحمة على العبد"، وهي رحمة يمكن أن يكون لها معان عدة ((هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور))، فالصلاة هنا رحمة منه سبحانه هدفها "إخراج العبد من الظلمات إلى النور" – فما معنى ذكر الاثنين "الصلوات + الرحمة"؟
(الثاني) لماذا جاءت "صلوات" بالجمع بينما "رحمة" بالمفرد؟
قيل "الصلوات" مصداق لـ "الرحمة" التي هي عامة شاملة في علاقة ربنا عز وجل بنا وهي دائمة في كل حين، ولكن في هذه الحالة هناك إضافة أو تقوية وهي "الصلوات"، وبالتالي فكأن هناك "الرحمة العامة + النوع الخاص وهو الرحمة"؛ وهذا يعطي جواباً على السؤال الثاني أيضاً لأن "المفهوم يكون مفرداً" بينما "المصداق يمكن أن يكون مفرداً أو جمعاً"؛
وقيل "الصلوات" بمعنى "المغفرة"، وعندها تكون "الرحمة" بأي معنى للرحمة غير المغفرة؛
وقيل "الصلوات" بمعنى "الثناء" أي على موقفهم؛
وقيل "الصلوات" هو أن "الله يذكرهم في الملأ الأعلى"، وعندها تكون الرحمة بأي من معانيها؛ وهذا المعنى جميل إذا ما ضممناه إلى ((واذكروني أذكركم)) لأن "الاسترجاع عند المصيبة" دليل عملي على "عدم الغفلة عنه تعالى، أي الذكر"، وطالما وعد سبحانه بذكره العبد إذا ذكره فإنه يذكره هنا بالصلوات.
(17) وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
لا شك في أن الذي يتصرف على هذا النحو هو من الذين لم يضل عن الطريق الوسطى، فهو المهتدي إلى الحالة الصحيحة، وذلك بناء على اهتدائه إلى حقائق الأمور.
واستخدام "أولئك" يشير إلى عظمة هذا الاهتداء، لأنه في ساعة شدة وليس رخاء.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
(ثانياً) القسم التاسع: مفاهيم مهملة – 1
المقصود بـ "مفاهيم مهملة" هي المفاهيم التي يغفلها المسلمون، إما بشكل جزئي أو بشكل يكاد يكون تاماً، - إلا الأقلية منهم بطبيعة الحال -. أي:
إما أن يكون الناس ملتفتين إلى هذا المفهوم المهمل بحيث تجده في حياتهم، من قول أو فعل، ولكنه بشكل ضعيف قياساً إلى ما ينبغي،
أو أن يكون الناس غافلين عنه بحيث لا تكاد تجد له أثراً في حياتهم – لا في تفعيله ولا في آثاره عليهم.
الآن، نعرج على المفاهيم الثلاثة التي طرحتها قبل قليل:
(1) الذكر (2) الشكر (3) الصبر
دون إعادة المعنى الممكن، ولكن من أجل الاستفادة من تدبر الآيات في معانيها في حياتنا.
علماً أن هذه المفاهيم الثلاثة مفاهيم مفصلية لأنها تمتد في حياتنا كلها، وذلك لأن:
الذكر – عدم الغفلة عن الله تعالى، أي ذكره في كل حال، وكلما كان الذكر محيطاً بمدد أطول من حياتنا اليومية كلما كانت نتائج الغفلة – وهي المدد الأخرى التي يغيب الذكر فيها – أقل، وكلما كان الذكر أشد كانت نتائجه الإيجابية أعظم.
الشكر – لأن نعم الله تعالى لا تنقطع لحظة واحدة فإن الشكر يجب على الدوام.
الصبر – لأنه لا يمكن الهروب من الابتلاء، بما يعده الناس رزايا وصعوبات ومكاره أو ما يعدونه محبوباً، وبالتالي فإن تفعيل الصبر لا مهرب منه.
لذا، فإننا سنتناول بالتدبر آيات الذكر والشكر والصبر في لقاءات أخرى إن شاء الله.
(2) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
قلت أن معنى "ذكرنا إياه" هنا هو الالتفات إلى وجود الله في الحياة، فهو عكس الغفلة عنه سبحانه. لهذا تجده يعلمنا أن "ذكر الله" هو أعظم من كل شيء، فيقول ((ولذكرُ الله أكبر)) أي "أكبر من أي شيء آخر". فقد روي عن الإمام الصادق (ع): ((... وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أومعصيته)) – أي أن "التسبيحات الأربع" هي من أنواع الذكر، ولكن الذكر "الأكبر" هو عدم الغفلة في الحالتين: الطاعة والمعصية.
أما "ذكره إيانا" فهو الاستجابة لانتباهتنا له وعدم غفلتنا... لأنه...
· لأنه يرد إلى الذهن سؤال: هل أنه تعالى لا يذكرنا إلا إذا ذكرناه؟
الجواب: قطعاً لا؛ بل هو يذكرنا على الدوام، بل لا يمكن أن يغفل عنا فهو ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) من جانب، و((ما كان ربك نسياً)) من جانب آخر.
فهو يحوطنا بنعمه الظاهرة والباطنة وألطافه الخفية في كل لحظة من وجودنا حتى مع الغفلة، بل والغفلة التامة من الكافرين.
إذاً، هي عناية إضافية، أو تشديد العناية الموجودة أصلاً، أو عناية محددة متعلقة بتوجهنا المحدد في ذلك الحين. فقد روي أن رسول الله (ص) قال: ((... خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان)).
· إذاً، أن "نذكره" يعني أن نلتفت إلى وجوده بأشد ما نستطيع، وهو ما سيسهم في إعطائنا ذلك السلام الداخلي المنشود – ((ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) – بغض النظر عما سيتحقق فيما بعد من "ذكره هو لنا" كنتيجة...
وكلما كان هذا التفاعل مستغرقاً لأوقات أطول من حياتنا، وبدرجات أعمق، كلما كانت الثمرة أعظم، إلى أن تصل ((أذكروني)) إلى حالة "الانشغال بالذكر عن الطلب" عندها تكون الاستجابة ((أذكركم)) أعظم في العطاء مما لو طلب – فعن الصادق (ع) ((إن الله تبارك وتعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي من سألني)).
(3) وَاشْكُرُواْ لِي
الشكر مراتب عديدة ينبغي أن نتعرض إليها عند تدبر آيات الشكر بشكل مخصص. ولكن يكفي إلفات النظر هنا إلى ضرورة عدم الوقوع في حبائل ضعف النفس في الوقت الذي يظن الإنسان أنه يشكر الله على نعمه.
فإن أدنى درجات الشكر هي: قول "الحمد لله" أو "الشكر لله" أو مثيلاتهما + شريطة أن يكون قاصداً فعلاً ما يقول؛ لأنه – ومن المؤسف – أن الكثير من الناس تسأله "كيف الحال؟" يجيبك "الحمد لله" وربما قالها باكتئاب، فإذا ما ثنيت السؤال "وكيف الحال بعد؟" هنا تنطلق الشكوى وبشكل لا يمكن أن يكون هذا الإنسان يشكر الله حقاً.
درجة أعلى من الشكر هي: أن يشعر العبد الشاكر في داخله بالنعمة بشكل يشعر معه بشيء من الفرح والرضا.
درجة أكثر علواً: أن يتحدث الإنسان بالنعمة التي يشكر عليها بشكل ينطبق عليه ((وأما بنعمة ربك فحدث)) – دون تلك المخاوف والوساوس من الحسد وما إلى ذلك –، عندها كأنه يشيع ثقافة الشكر + يرسخ رضاه بما آتاه الله في نفسه.
درجة أكثر علواً وسمواً: أن يعطي الإنسان من النعمة المشكورة إلى الآخرين، عندها يدخل في "الشكر العملي"، فلسان حاله: يا رب، أنعمت علي وأريد أن أشكر لك بشكل أنت تحبه وهو أن يشاركني غيري هذه النعمة لأنك تحب المحسنين، أو لأني سمعت نبيك (ص) يقول ((خير الناس من نفع الناس)).
ثم يتصاعد إلى درجة هي: إعطاء كل ما زاد عن حاجته من تلك النعمة المشكورة.
ويتصاعد فيصل إلى درجة: الإيثار، بحيث يعطي الآخرين ((ولو كان بهم خصاصة))، كي يدخل في عداد ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)).
(4) وَلاَ تَكْفُرُونِ
إذا كفرت النعمة، إما:
- بعدم شكرها مجرد الشكر اللفظي الحقيقي، أو بحالات الشكر الأعلى، فإنك كمن "يغطي" هذا العطاء لأنه ستره بغفلته أو بإهماله الشكر الحقيقي عليه، أي هو "يكفر به"؛ أو
- بعدم إظهارها، خوفاً من الآخرين من حسد أو مكر أو كيد، فهو "تغطية" أي "كفران" بها.
مؤكد هنا تفاصيل تتعلق بقضية الحسد وأنواع الناس ومسألة الكتمان أين ينبغي، ولكننا نتحدث هنا عن الحالة الاعتيادية دون عقد.
هذا "الكفران" أثره السلبي يقع علينا، لأنه تعالى، وكما وصفه سليمان (ع) ((فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإني ربي غني كريم)) / واللطيف أنه (ع) يعتبر ما آتاه الله من النعم العظيمة "ابتلاء" فتراه يقول قبلها ((هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر)).
فكما أن عائدة الشكر للشاكر فإن نتيجة الكفران عليه لأنه سيخرج من ((فاذكروني أذكركم)).
(5) اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ
· مفهوم "الصبر" معروف عند الناس جميعاً، ولكن هناك درجات كثيرة جداً من "الصبر"، حتى أن بعضها لا يصدق عليه "الصبر" بينما صاحبه يظن أنه من الصابرين، بل ربما يصدق عليه "الجزع"؛ وبعضها يتصاعد في "الصبر الحقيقي" بحيث أن صاحبه يندرج تحت العنوان الرائع: ((إن الإيمان نصفان: نصفه صبر ونصفه شكر)) – ما يربط لنا بين المفهومين أعلاه: الشكر والصبر.
· وأما "الصلاة"، فهي هنا "الصلاة عند المسلمين" لأن القرآن جعل لـ "الصلاة بمعناها العام وهو الدعاء" معنى خاصاً وهو الشعيرة العبادية المعروفة"؛ لذا، نجد المسيحيين مثلاً يقولون "نصلي" ويعنون "ندعو" (بعض أولاد المسلمين هنا يترجمونها حرفياً فيقولون مثلهم "نصلي" بمعنى الدعاء).
· ولا شك في أن "الاستعانة بالأمرين – الصبر والصلاة" تكون في موارد الابتلاء التي "تعد من الصعوبات"... ولكن...
· ولكن إذا ما تصاعد العبد في فهمه ووعيه فإنه يبدأ بتفعيل "الصبر والصلاة" في موارد الابتلاء التي "تعد من العطايا"... فهذا يرى أن "الابتلاء الصعب إنما هو نعمة"، وذلك لأنه (أ) يعني أن الله يحبه ((إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه)) وهو بحث آخر (ب) يخرج أقوى ما عنده من قدرات في مواجهة التحديات وهو بحث آخر أيضاً.
· هنا أسأل: ما الذي يربحه الجازع قليل الصبر؟
لا شيء مطلقاً، لأن الجزع ليس إلا حالة انفعالية، سواء بقيت في الداخل أو خرجت على شكل أفعال بدنية، بعدها يهدأ ولم يحقق شيئاً.
ولكن: ما الذي يخسره الجازع؟
الكثير، فهو يبتعد عن الله تعالى؛ وهو يكشف ضعفه أمام الناس، ونقاط الضعف ينبغي أن يحاول الإنسان – وهو يفعل عادة – عدم كشفها، وهو محمود عملاً بالشعر المنسوب لأمير المؤمنين (ع):
ولا تُرِيَنَّ الناسَ إلاّ تجَمُّلاً ** نَبا بكَ دهرٌ أو جفاكَ خليلُ
أي لا تريهم إلا نقاط القوة تحسباً لأيام صعبة أو لانقلاب الخليل الذي يعرف نقاط ضعفك عدواً.
وما نسي الإنسان فلا يجب أن ينسى قوله تعالى ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) – فهل هناك نعمة أكبر من هذه؟
(6) إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
وحتى يكون موعد الأجر بغير حساب، فإن الصابر يتمتع بـ "معية الله" وهي لا تقارن بأي راحة مؤقتة ربما يشعر بها الجازع.
ملاحظة: الناس يختلفون في قدراتهم على الاحتمال ((ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها))، ولكن كلما أسرع الصبر إلى الإنسان كلما كان أحسن، والأحسن تماماً هو ما وصفه النبي (ص) ((الصبر عند الصدمة الأولى)).
ملاحظة مهمة:
لا شك في أن الصبر مع المعاناة وبالشكل الذي تناولناه يأتي بالثواب الجزيل، ولكن لو استطاع الإنسان أن يتعامل مع المعاناة بشكل يحيّد آثارها السلبية عليه بحيث لا يكون الصبر عبارة عن ضغط للمعاناة في الداخل حتى تنتج العقد النفسية والمشاكل البدنية فإنه يفوز بالأمرين: الصبر وأجره + التخلص من آثار بعيدة المدى محتملة.
وهذا يقود إلى الوسائل العملية خارج بحثنا.
(7) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
هذه "البشارة" للصابرين عامة في كل مورد صبر... كما أنها في الربط مع ما بعدها...
(8) قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ
ولكن: كم من الناس من يقول "إنا لله وإنا إليه راجعون" من ينجح معه هذا القول في تحمل النازلة؟
مؤكد أننا نرى بعض الناس "يظهرون جزعاً شديداً" ما يجعلهم على الضد من هذه الحالة التي تثني عليها الآيات؟
ولا أعني هنا الذين يظهرون الجزع كما هو دون مواربة؛ ولكن أعني الذين "يقولون" كلمة "الاسترجاع – إنا لله وإنا إليه راجعون" ولكنهم في ذات الوقت "لا يستشعرونها في داخلهم"...
أي: كلمة ((قالوا)) لا تعني "القول المجرد" وحسب، ولكنها تشمل "الشعور الحقيقي" بحقيقة الكلمات في ((إنا لله وإنا إليه راجعون)).
وهذه درجات كما هي حالة "الصبر" التي ذكرتها أولاً.
فإن أية كلمة "تقال فقط" ربما تسقط الفرض، ولكنها لن تحقق المراد منها. وإلا فعندما يقول النبي (ص) ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) فإنه لا يمكن أن يعني مجرد القول، ولكن يعني: القصد في الداخل/النية + الشعور بها + القول + الاستمرار عليها.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.