برنامج تدبر القرآن
المركز الإسلامي في سري، الجمعة 12/09/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
الحجة القرآنية – المختصر المفيد الحاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
في هذه الحلقة نتدبر بعض الآيات المباركة التي تمتد إلى عدد من المواضيع ولكن يجمعها هدف هذه الحلقة وهو: إقامة الحجة على المخاطبين في كل آية بشكل مختصر حاسم.
(1) القرآن المنزل من عند الله
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ . فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ / الطور 33-34
تعرضنا إلى حجة القرآن بخصوص القرآن نفسه، وهذه الآيتان من ذلك القسم.
هنا نجد الحجة الحاسمة في اختصار رائع:
إنكم تقولون أنه (ص) إنما يدعي نزوله عليه وهو من إنشائه، وبما أنه بشر مثلكم، ومن قومكم، ومن بيئتكم، ويتكلم لغتكم، فما عليكم سوى أن تأتوا بحديث مثل ما يزعم أنه نزل عليه لتثبتوا زعمكم واتهامكم إياه بالادعاء الباطل.
وبما أن هذا لم يحصل منهم، علمنا أن الحجة أقيمت عليهم وبان بطلانها.
ولكن ربما يأتي شخص بعدهم، وحتى اليوم، ويقول: إنهم فشلوا لأنهم هم لم يتمكنوا من الإتيان بحديث مثله، ولكني أستطيع ذلك، أو أعرف شخصاً يستطيع ذلك...
عندها نقول له: أهلاً وسهلاً ((فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين))!
ولا تقولوا لا يوجد مثل هؤلاء، فإذا كان طالباً في الدراسة الثانوية معنا قال هذا لمعلم درس الدين، فإنه مؤكد أن غيره ممن يظن بنفسه الكثير ربما يقول هذا...
على أية حال، الحجة باقية، بيدنا – نحن الذين نؤمن بهذا الكتاب المعجز – فليتفضل من يريد معارضته.
(2) الخلق والخالق – الحجة على الملحدين
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ / الطور 35-36
هاتان الآيتان بعد تلك الآيتين من سورة الطور، تخص السؤال الأول الأساس في الفلسفة: الخلق، ومن خلقه؟
كتب أحد الإخوة المشتركين في مجموعة حوارية ما يلي تعقيباً على إيرادي هذه الآية المباركة، نأخذ منها موضع الشاهد (جعلت لها ترقيماً بالحروف لتسهيل متابعة الجواب):
"(أ) لا لم يخلقوا من غير شيء؛ خلقوا من عناصر الأرض بسلسلة طويلة عريضة من عمليات النشوء و الارتقاء.
(ب) و الاعتقاد بأن الانسان خلق مرة واحدة بشكله الحالي لا تدعمه العلوم الحديثة .
(ت) و الجواب عند البعض بأن الله خلق كل شيء هو هروب مؤقت من سؤال عويص حيث سيتبادر السؤال ومن خلق الخالق الى ما لا نهاية و بهذا نعود الى المربع الأول.
(ث) و إذا قبلنا ان الله خلق نفسه بنفسه ولا نعلم نحن البشر كيف فما هو الفرق عن القول بان الكون خلق نفسه بنفسه و لحد الان لا نعلم كيف؟"
(ج) ثم يعقب على قولي: "فنسأله: هل يتصور هو، أو أي أحد عاقل، أنه يمكن أن يكون قد خرج بفرقعة بُم بُم؟"
قال: "ببساطة شديدة.... نعم. ولكن هذا تبسيط شديد لعلوم فيزياء الكون الحديثة ..." إنتهى.
أجبته كالآتي:
(أ) لو أن القرآن قصد من ((أم خلقوا من غير شيء)) أنها العناصر التي خلقوا منها فأي حجة في هذا على الناس؟! كل إنسان، حتى عرب الجاهلية الذين نزل عليهم القرآن، يعلمون أنهم من عناصر مختلفة وأن أمهاتهم حملت بهم ثم كبروا ثم خرجوا ثم كبروا في مسلسل يعيشونه دائماً. قطعاً لا، القصد هو "هل أنهم خلقوا دون مسبب" هذا معنى ((من غير شيء)) أي من غير آلية لذلك، وهو واضح.
(ب) أما النشوء والارتقاء، نظرية دارون،
فأولاً لا تزال تسمى "نظرية" لأن العلماء يعلمون أنها لم ترق إلى مستوى "قانون" بسبب وجود الخلل في مفاصل عدة منها؛
ثانياً هناك شك علمي كبير في المدة الزمنية للحياة على الأرض والمدة الزمنية لكوكب الأرض، وهذه المدة المتطاولة التي يصر عليها أنصار نظرية دارون ليس حباً فيها ولكن لأنهم يحتاجون إليها من أجل جعل قبول التطور الهائل من خلية واحدة في البحر في مكان ما من العالم إلى هذه الكائنات شديدة التعقيد أمراً ممكناً وإلا لانهارت نظريتهم؛
ثالثاً إشكال مهم جداً: طالما أن القضية هي تطور وارتقاء مستمر، لماذا يا ترى لا نجد أنواعاً كثيرة جداً مما هي تقع بين الأصناف المعروفة المحددة من اللبائن والطيور والزواحف والبرمائيات والأسماك؟ ينبغي أن يكون هناك إنسان مثل الطائر وثعبان مثل القرد وسمكة مثل الدجاجة، يتشابهون في أشياء ويختلفون في أشياء أخرى؛
رابعاً اليوم لم يعد هناك من يؤمن فقط بالسلالة الواحدة، بل أن نظرية "تعدد السلالات" هي الأقوى وبالتالي فإن إنسان نياندرتال مثلاً ليس بالضرورة من أجدادنا، وبالتالي القرود وغيرها.
(ت) الله خالق كل شيء ليس هروباً من سؤال "من خلق الله"، بل هو الجواب على هذا! السؤال "من خلق الله؟" فيه نقطتان:
(الأولى) خطأ في أصل السؤال، لأنه – كما أشار الأخ المحاور – سيعيدنا إلى الدور وهو باطل فلسفياً؛ كما أننا نفصل بين المخلوق الذي شاء الله أن يخلقه وبين الخالق الذي لم يزل موجوداً فلم تمر لحظة دون أن يكون موجوداً، وبالتالي ينتفي سؤال "من خلقه"؛
(الثانية) إزدواجية في المعايير، فبينما تنفي وجود الله – كما أفهم من الكلام – وهو الموجود الأزلي فإنك تقبل بالمادة الأزلية؛ فكيف يمكنك القبول بموجود أزلي أعجم لا عقل ولا إرادة له بينما لا تقبل بموجود عالم قادر مريد؟
فإن قلت: أنك لا تؤمن بالمادة الأزلية عندها أسألك: فكيف وجدت هذه المادة؟
فإن قلت: أنها جاءت على طريقة "بُم بُم" عندها أسألك: وماذا قبل هذا؟ وكيف حصل "بُم بُم"؟ وأين كان الكون؟ وأسئلة عن أصل الوجود لا يمكن الجواب عليها دون القول بالخالق المنفصل عن خلقه العليم المقتدر.
(الثالثة) من هذا يتضح خطأ قولك "الله خلق نفسه بنفسه" لأنه لم يزل موجوداً فلم يخلق نفسه بنفسه.
(الرابعة) وجدتك أهملت الشطر الثاني من الآية ((أم هم الخالقون)) مع أنه يمثل الحد الثاني من الحجة على منكري الخالق، لأنه يقول لهم: لندع كيف خلقتم ((أم خلقوا من غير شيء))، هل أنتم خلقتم أنفسكم؟ مؤكد لا جواب على هذا.
الحجة الحاسمة:
وهكذا نجد الآية المباركة تقدم الاحتمالين العقليين الباقيين بعيداً عن الخالق المنفصل المريد:
(الاحتمال الأول) جاء الخلق (1) دون سبب + (2) دون مادة + (3) دون آلية، أي واحد أو أكثر من هذه الثلاثة / وهذا مستحيل عقلاً لأننا عقلاً نوقن أنه ما من شيء إلا وله سبب + وما من شيء مادي إلا وله مادة أصل + وما من شيء إلا وهناك آلية جاءت به إلى الوجود.
(الاحتمال الثاني) الخلق خلق نفسه / وهذا مستحيل عقلاً لأنه قبل أن يخلق كان معدوماً، وعليه فلا يمكن أن تكون للمعدوم القدرة والآلية والعلم على فعل شيء، ومنه خلق نفسه.
بانهيار هذين الاحتمالين، لا يبقى سوى الخالق المنفصل عن الخلق + العالم + القدير + المريد – فهو موجود منفصل عن الخلق قبل الخلق + العالم بمادة وآلية الخلق + القدير على تفعيل الآلية للخلق + المريد/يريد أن يخلق الخلق. سبحانه وتعالى.
(3) عيسى (ع) – الحجة على المسيحيين
الحجة الأولى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ / آل عمران:59
أولاً / ((مثل... كمثل)) ولم يقل "إن عيسى كآدم" – المثل أي المماثلة متعددة، هنا:
(1) ((خلقه)) كما خلقه
(2) ((من تراب)) في الحالتين
(3) ((كن فيكون)) بالنفخة في الحالتين
(4) وجدوا أن ذكر كل منهما (ع) 25 في القرآن!
ثانياً / حرف العطف ((ثُمَّ)) يفيد التراخي أو الحصول بعد زمن ما، وهذا جميل في استيعاب الخلق من خلال أدوار الحمل في بطن أمه مريم (ع) التي تستغرق تسعة أشهر كغيره من البشر.
ثالثاً / نقطة ((ثم قال له كن فيكون)) ربما أشكل البعض عليها استخدام المضارع "يكون" وليس الماضي "كان" على اعتبار أن الأمر قد حصل قبل نزول القرآن بقرون. ولكن النكتة في: (1) أن المتكلم هو الله تعالى الذي يتساوى عنده الزمن الماضي والمضارع (2) أنه يريد تثبيت العقيدة في أن أمره تعالى لا يتخلف بحيث عندما يقول لشيء "كُن" فإنه "يكون"، وهو ما تجعله الآية ((إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)) يس:82 عاماً في جميع أمره تعالى.
الحجة الثانية:
بعد آيات تصف بالكفر من يعتقد بألوهية المسيح (ع)، ومن يعتقد أنه ثالث الأقانيم الثلاثة، تأتي الحجة القرآنية التي تلفت إلى طبيعة المسيح (ع):
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ / المائدة:75
يقول لهم:
إن مجرد كونه (ع) كان "يأكل الطعام" دليل قاطع على بشريته، وإلا هل هناك من يعتقد – وهم من ضمنهم – أن الإله يأكل الطعام؟
ولكن ربما يأتي من يقول: وما يدريك أن المسيح (ع) كان يأكل الطعام؟
أو: من قال أن النصوص المقدسة عند المسيحيين تثبت تناوله (ع) للطعام؟
الجواب يسير:
ينص الكتاب المقدس على أن المسيح (ع) تناول الطعام والشراب في "العشاء الأخير" من الحواريين، وفي هذا الكفاية.
والعجيب أن الكتاب المقدس كم يذكر المسيح (ع) بصفة "إبن الإنسان"، مع ذلك تختلط القضية ما بين "إله" أو "إبن الإله".
(4) محمد (ص) - الحجة على المسلمين
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ / آل عمران:144
(أ) يذكره (ص) باسمه الشريف "محمد"، ليؤكد حقيقة كونه رجلاً من البشر منهم، وبالتالي فإنه لم يقل أحد أن الموت لن يتطرق إليه؛
(ب) ثم يقول أنه "رسول"، الفارق بينكم وبينه (ص)، ولكن حتى هذا فإنه ليس جديداً لأنه قد سبقه (ص) رسل (ع)، وهؤلاء (ع) ماتوا أو قتلوا وفي الحالتين ما كان مقبولاً أن تنقلب أقوامهم بعد موتهم أو قتلهم (ع)، وأنتم كذلك.
هذا بعد إشاعة "القتل" في أحد، فلماذا تضم الآية إليها "الموت"؟ لأنها تحذرهم من الانقلاب بعد موته (ص).
(ت) ما معنى "الانقلاب على الأعقاب"؟ لماذا ليس الانقلاب على "الدين" مثلاً؟
كأنه يريد القول: إنكم أدرتم ظهوركم للموضوع بأسره، وهرولتم بعيداً عنه (ص) وعن الرسالة كلها، وعن العلاقة بالله تعالى التي هي الهدف من الرسالة... وهذا يقويه ما بعده...
(ث) وهي النقطة المهمة ((فلن يضر الله شيئاً))، التي تلفت نظرهم إلى الحقيقة وهي أن الارتباط هو بالله تعالى وليس بالرسول (ص) الذي هو مبلغ عن الله، وبالتالي فإن من "ينقلب" أو يفعل أي شيء مخالف إنما هو موجه نحو الله تعالى والذي هو لن يضره شيئاً كونه مستحيلاً؛ ولعل الاستطراد هو أن كل مخالفة للحق لا بد أن تأتي بنتيجة سلبية، وبما أن الطرف الآخر من العلاقة – الله تعالى – لا يمكن أن تصيبه النتيجة السلبية هذه، فإنها تصيب "تضر" الطرف الآخر وهو الإنسان المنقلب.
(ج) ((سيجزي الله الشاكرين)) / فيها:
أولاً / الوعد من "الله" وليس "الرب"، لأن:
(1) فعل العبد المطيع "الشاكرين" ثبات على العهد مع الله تعالى بغض النظر عن نعم الربوبية؛ (2) ربما لأن الثبات على العهد هنا – موت النبي (ص) أو قتله – يتم في حال صعبة لا ترتبط بالنعم عادة، فيكون الجزاء من الله أليق بالحال...
ثانياً / "الشاكرين" عجيبة، فهو لم يقل "الثابتين" أو "الحافظين للعهد" أو "المؤمنين حقاً" أو غيرها مما هو يصف حالهم، ففيه إلفات مهم جداً إلى أن المؤمن إذا كان "شاكراً حقاً لنعم الله تعالى" فإن ذلك سيظهر من موقفه، فكيف إذا كانت النعمة هي "نعمة الإيمان بالرسالة الخاتمة"، عندها يكون "الثبات / عدم الانقلاب" هو المصداق الأعظم لـ "شكر هذه النعمة". لأن "الشكر" كما بينت في محاضرة سابقة درجات عديدة.
(ح) أخيراً، نلاحظ أن الآية نزلت بعد أُحُد والإشاعة أثناءها أن النبي (ص) قُتِل وما اتفقت عليه الروايات كلها من هزيمة معظم المسلمين بحيث لم يبق غير علي (ع) وأبي دُجانة الأنصاري (رض) اللذين كان كل منهما يقاتل "من وجه" كما عبر الرواة؛ كما ذكروا أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية وكيف أنها قاتلت مع زوجها وولدها عمارة وأخيه حتى انطلق دعوة النبي (ص) لهم بالجنة، بينما الآية لا تقتصر على القتل بل تمتد إلى "الموت" الذي هو ليس إشاعة ولكنها كائن حتماً في مستقبل الأيام ((إنك ميتٌ وإنهم ميتون))، فما السبب؟
أجد أن المسألة تتعلق بقضيتين:
الأولى – ذكرناها، وهي أن النقطة الهامة هي العلاقة بالله تعالى وليس بالرسول (ص)، فحتى لو مات الرسول (ص) فإنهم يجب أن يثبتوا على الدين، الأمر الذي قاله أنس بن النضر (رض) لبعض المنهزمين الجالسين – قال لهم "فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله"، وقال أنصاري آخر "إن كان رسول الله قد قتل فقد بلـّغ، قوموا فموتوا على ما مات عليه" ولعل آخر قال لهم "قوموا فدافعوا عن دينكم".
الثانية – هي التحذير قبل موت النبي (ص) من هذه الحالة أن تحصل عند موته (ص)، فإن حصلت من أحد فإنه ((لن يضر الله شيئاً))، أما الثابتون على العهد ((وسيجزي الله الشاكرين)).
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الهداة.