أذكر مرة أخرى بأن معوقات عملية تقع في ثلاثة جوانب: الأهداف، والوسائل، والنفس؛ وبما أن ما في النفوس من مشاعر تدخل في تحديد الأهداف كما تدخل في الوسائل، فإن من أهم الأسس لتقييم عملية التقريب بين المسلمين وتقويمها هو معالجة المشكلة النفسية.
وأشرت إلى أن بعض المسؤولين عن تأسيس هذه المشكلة هم علماء السوء، من الماضين الذين أسسوا تلك المشاعر نتيجة اصطفافهم مع الحاكم أو جهلهم أو خضوعهم للضغوط أو سقوطهم أمام مشاعر الانعزال والانغلاق، أيضاً من الحاضرين الذين لا يتركون فرصة لترسيخ تلك المشاعر المدمرة إلا واستخدموها، حتى أوصلوا الأمة إلى التساهل في رمي الآخر بكل تهمة حتى التكفير، وما يترتب عليه من أحكام، تجد هؤلاء وأتباعهم جاهزين لترتيبها وتنفيذها.
التكفير وضرورة الوحدة
وأذكر بقول الشيخ كاشف الغطاء بأن: "بعض من يظن أن الشيعة تقول أن من لا يقول بالإمامة غير مسلم، كلا ومعاذ الله؛ أو أن السنة تقول أن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام، لا وكلا. إذاً، فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجامعة الإسلامية وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله ووجوب إخوته وحفظ حرمته وعدم جواز غيره إلى غيرها"، وهو قول يجعل المسألة الخلافية الأصلية، وهو الإمامة، وإمامة أهل البيت (ع) بالخصوص، خارجة عن النيل من الصفة الإسلامية لأي مسلم وما يستتبعه من حرمة دمه ومالة وعرضه أولاً ووجوب التعامل معه تعامل المؤمنين كإخوة يحفظ بعضهم بعضاً.
وأزيد هنا قوله (رحمه الله تعالى) بخصوص مشكلة نيل الشيعة من الخلفاء الأولين والذي يشكل أهم ما يستخدم في طريق التقارب بين أبناء الطائفتين. قال: "إن هذا لا يقتضي العداء حتى لو تم، أولاً لأنه ليس من رأي جميع الشيعة بل من رأي بعض الأفراد؛ وأن أئمتهم (ع) نهوا عن ذلك. الثاني، أنه لو حصل فلا يستوجب الكفر أو الخروج من الإسلام، بل أقصى ما يمكن هو أنه معصية، والمعاصي وأهلها كثيرون في الإسلام، فلا يجوز قطع الرابطة الإسلامية بسببه. الثالث، أن هذا لا يوجب معصية أو فسقاً إذا كان ناتجاً عن اجتهاد لأن المتسالم أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وأن علماء السنة حكموا على المتقاتلين في الصدر الأول كالزبير وطلحة ومعاوية أنهم اجتهدوا وأخطأوا في اجتهادهم وأن ذلك لا يقدح في عدالتهم وعظيم مكانتهم".
وتساءل: " إذا كان الاجتهاد يبرر ولا يستنكر قتل آلاف النفوس ممن المسلمين وإراقة دمائهم فبالأولى أن يبرر ولا يستنكر معه – أي مع الاجتهاد - تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة".
ثم يلفت إلى أن النظر إلى القضية مجردة عن الملابسات، أما إذا نظرنا إلى ما جره الخلاف والعداء على المسلمين وما ضاع من ممالكهم وصولاً إلى رزية فلسطين وكيف أن سبع دول عربية إسلامية تغلبت عليها أذل الأمم وأقلها عدداً عندها يصبح أمر الجامعة والرابطة الإسلامية لا بد من تقديمه على غيره.
(يعني دخول مصر والعراق وسوريا ولبنان والأردن والسعودية واليمن الحرب ضد اليهود عام 1948، والتي كانت في الواقع حرباً غير متوازنة، ولكن في صالح اليهود، لأنهم كانوا أفضل تدريباً وأفضل عدة، وأكثر عدداً وهو ما لا يعرفه أكثر الناس، فإنهم كانوا أكثر من مائة ألف بقليل بينما كانت قوات الدول السبع أكثر من أربعين ألفاً بقليل! وهذا استفدته من لقاء تلفزيوني مع اللواء سعد الدين الشاذلي رحمه الله رئيس أركان القوات المصرية في حرب تشرين/أكتوبر 1973. وهكذا، فإن الأمة وصلت إلى الضعف والذلة بحيث أن دولها المستقلة لم تستطع إرسال ولا حتى نصف عدد "العصابات الصهيونية" كما كان يطلق عليها.)
ثم يشير الشيخ (رحمه الله) إلى أن العصبيات تنتج من تهجم البعض على البعض الآخر ورد الآخرين عليهم (يعني تهجم الناس على الشيعة فيضطرون إلى الرد).
التكفير والعصبية
إنني عندما أنقل إليك – أخي المخالف – قول الإمام جعفر الصادق (ع): ((الشيعة ثلاث: محبّ وادّ فهو منّا، ومتزيّن بنا ونحن زين لمن تزيّن بنا، ومستأكل بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر)) (روضة الواعظين ص293) فإنما أريد منك أن تعرف أمرين حاسمين:
الأول – أن الكثيرين ممن يتسمون شيعة هم في الواقع محبون لأهل البيت (ع) متبعون لمدرستهم الفقهية، ولكنهم غير متبعين للمنهج الصحيح الذي يؤهلهم لصفة التشيع، وعليه فمن الظلم تحميل التشيع كمذهب والشيعة كطائفة وزر أي فعل أو قول يخرج من فرد أو أفراد مهما علت أصواتهم أو نشرت أخبارهم؛
الثاني – أنك والكثيرين من أتباع المذهب السني الذي تتبعه أو المذاهب السنية الأخرى إذا كنت محباً واداً لأهل البيت (ع) – وهو الأعم الأغلب في أهل السنة – فإنك في عداد التسمية الشيعية العامة التي بينها الإمام الصادق (ع)، ولكنك غير متبع لمدرستهم الفقهية وذلك إما لجهلك بأن مذهبهم هو مذهب فقهي وليس عقدي فحسب، أي أنه لا يقوم على الإمامة فحسب بل هو مذهب فقهي، أو أنك تعلم أنه مذهب فقهي أيضاً ولكن التبس عليك الأمر عندما سمى الناس – وليس الأئمة (ع) ولا شيعتهم – هذا المذهب بأنه مذهب "جعفري" مع أنه مذهب "علوي"، وربما كان ذلك مقصوداً لصرف الناس عنه لأن الناس لو سمعت بأن هناك مذهب "علوي" عندها لن يسعها أن تتركه إلى غيره لأن مؤسسه – علي بن أبي طالب – صحابي (بغض النظر عن صفاته الفريدة ومميزاته التي نطق بها الكتاب العزيز والنبي الكريم (ص)) بينما كان مؤسسو المذاهب الأخرى من عصر ما بعد الصحابة ومعظم التابعين.
بلحاظ الأمرين أعلاه، نستطيع إقامة جامعة أخرى ترسخ الجامعة الإسلامية، وهي جامعة مودة أهل البيت (ع)، تلك الجامعة التي لا بد أن يشعر بها كل مسلم يقيم الصلاة، وإلا ما معنى قوله "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" في تشهد الصلاة، في كل صلاة، فريضة أو نافلة، يومية وغير يومية، كل يوم، مدة عمره طالما هو يقيمها؟
الحب والنصب
كما وأنني عندما أنقل إليك تحذير الإمام الصادق (ع) لمن يبغضون أتباع مدرسة أهل البيت (ع) في إطلاق وصف "الناصب" – عليهم بقوله (ع): ((ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحداً يقول أنا أبغض محمداً و آل محمد، و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم أنكم تتوالونا و تتبرؤون من أعدائنا)) (البحار ج72 ص131 وج27 ص233) فإني أريد تحذيرك – محبة لك وخشية عليك – أن تندرج في هذه الجماعة التي نصبت العداء لأتباع أهل البيت (ع) مع علمها أن عنوانهم الأكبر هو مودة أهل البيت (ع) واتباع مذهبهم الفقهي. ولن ينفع هؤلاء الهروب – بنصبهم وبغضهم هذا – التعكز على اتهام أتباع أهل البيت (ع) بمعاداة صحابة النبي (ص) وسبهم وشتمهم والبراءة منهم، وذلك للأسباب التالية:
أولاً، أنهم لا يعادون جميع أصحاب النبي (ص)، وإلا ما معنى تبجيلهم صحابة مشهورين كعمار وسلمان وحذيفة وأبي ذر وأبي أيوب وعبادة والكثير غيرهم، وهم يكثرون من ذكرهم ويشيدون أضرحة قبورهم ويزورونها وينذرون عندها ويكتبون عنهم الكتب والرسائل الجامعية ويؤلفون فيهم القصائد والمقالات ويحبونهم حباً جماً – إنما يعادون من ثبت عندهم وقوفهم مواقف سلبية لم يمكن تغطيتها من فاطمة (ع) – وهي بضعة النبي (ص) – عندما سلبوها ملكيتها وإرثها وهاجموا بيتها وهددوها ومن في بالتحريق، ثم ردوها عن حقوقها رغم المطالبة العلنية بها وإقامة الحجج التي لا ترد عليها، ومن علي (ع) – وهو أقرب الخلق إلى النبي (ص) حتى آخاه دون غيره وساواه بنفسه المقدسة ونقل إليه العلم والحكمة ونوه به حتى نصبه علماً للناس – فسلبت حقوقه في خلافة النبي (ص) وبالتالي سلبت حقوق المسلمين لأن خلافته (ع) إنما هي مسؤولية ثقيلة تعتبر من أهم حقوق المسلمين، فهي الوجه الآخر لخلافة علي (ع)، ومن الحسنين (ع) – وهما ريحانتا رسول الله (ص) وسيدا شباب أهل الجنة والمعلن عن تطهيرهما في القرآن وإمامتهما على لسان النبي (ص) – فهددا من ضمن تهديد بيت أمهما (ع) ومنعا من نفس الحقوق في الملكية والإرث ثم منعا مما منع منه أبوهما (ع) حتى ذاق الأول مهما السم والثاني السيف على ما عرفه المسلمون جميعها؛
الثاني، هو أن سب أولئك الصحابة موضوع الخلاف، أو شتمهم، لا يقوم به إلا القلة من أتباع أهل البيت (ع)، لا كعقيدة لأن أئمتهم (ع) أوصوهم بأفضل الأخلاق ونصحوهم بعدم السب، بل كزفرات نفس تتحسر على ما جرى على سادتهم وأئمتهم (ع)، ثم ما جرى عليهم هم من الحكام الذين تأسست ممالكهم كنتيجة مباشرة لذلك الذي جرى في أول الأمر، وإلا فهل سمعت – أخي المخالف – عالماً أو متعلماً أو حتى أحداً من العوام الذي سيماه التقوى وحسن الخلق يتخذ من الشتم والسب وسيلة لإظهار توجعه على ما جرى على سادته الطاهرين (ع)، بل على الأمة الإسلامية جمعاء نتيجة لذلك؟
الثالث، أن هناك فرقاً هائلاً حاسماً بين الصحابة – كائناً من كانوا – وأهل البيت (ع)، أريد منك التنبه إليه – أخي السني الذي تحمل في قلبك ذلك الحب الذي لا شك فيه لآل محمد (ص) –، وهو: إن الصحابة لا وجود ديني لهم لا في أصول الدين ولا في الفروع، بل إن وجودهم تاريخي إذ كانوا هم الذين شد الله بهم أزر نبيه (ص) فكانوا بين مهاجر عن الأهل والوطن وأنصاري فتح قلبه قبل بيته للنبي (ص) وصحبه المهاجرين، فقاتلوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتى نصر الله نبيه (ص)، فأشاد الله تعالى بهم في محكم كتابه بما لا يجعلهم محتاجين لمدح الشيعة ولا السنة ولا غيرهم؛ في حين أن آل محمد (ص) جزء من هذا الدين، فإن لم يكن في الأصول – أي الإمامة – فلا شك أن في أهم الفروع، وهي الصلاة، يأتي ذكرهم واجباً كجزء من الصلاة على النبي (ص) التي لم تكن إنشاءاً من أحد من الخلق، ولا حتى النبي (ص) نفسه، بل كانت منزلة في التنزيل المبين في قوله تعالى: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)) الأحزاب:56، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهك وينبهني وينبه جميع الذين آمنوا إلى هذا الاندكاك بين النبي (ص) وأهل بيته (ع) عندما بين (ص) أن الصلاة المأمورة في هذه الآية المباركة لا تكون مقتصرة عليه (ص) ولكن أن تضم آل محمد (ص) إليه (ص) – فلو لم يكونوا جزءاً منه (ص) بمعنى أنهم خلفاؤه في دوره في قيادة الإنسانية فما معنى هذا؟ وحتى لو تنازلنا عن هذا المعنى الواضح، فإن ضمهم (ع) إليه (ص) في الصلاة، كمعنى لهذه الآية الكريمة أولاً، وكجزء لا يتجزأ من تشهد الصلاة المفروضة والنافلة ثانياً، يجعلهم المبرزين على غيرهم، وإلا يكون غيرهم أعلى منهم منزلة ثم يأتي الدين – من قرآن وسنة – فيتركهم ويختار غيرهم – وهم آل محمد (ص) – ليضعهم في أهم العبادات على الإطلاق، وهي عبادة – وأرجوك أن تتنبه إلى هذه النقطة – شاملة لجميع المسلمين المكلفين، نساء ورجال، عامة وخاصة، يعرفون العربية أو لا، مرضى أو أصحاء، في سفر أو حضر، لأنها العبادة الوحيدة التي لا تترك بأي حال من الأحوال.
لذلك – أخي العزيز – لا يجوز التجافي عن أتباع أهل البيت (ع) لأنهم يحبون أهل البيت (ع) لأنك أنت تحبهم...
ولا يجوز معاداتهم لأنهم يجافون بعض الصحابة لأن الصحابة – مهما علوا – ليسوا جزءاً من الدين...
وهذا الأمر ينبغي أن يجعلك تنفتح على حقيقة طروحات أهل البيت (ع) وشيعتهم:
لتعرف فيما إذا كان ما سمعته عنهم من اتهامات صحيحة أم لا؟
ولتعرف أيضاً فيما إذا كان ما يقومون به من عبادات فيها بعض الاختلاف عما تقوم به أنت، أو ما يعتقدونه من عقائد ربما لا تعرفها، لها أصل في الشريعة أم لا؟
ولتعرف كذلك فيما إذا كان ما يقوم به البعض منهم مما لا تستسيغه له أصل معقول أم لا، وإذا لم يكن فهل هو مما يدعمه ويشجع عليه علماؤهم أو معظم علمائهم؟
أريد – شهد الله – أن لا تكون ممن يشعر حقاً بمودة أهل البيت (ع) ولكن عداءه غير المبرر، الناشئ من الجهل والتجهيل والكسل عن النظر وقبول التهم دون تحقيق واتباع سوء الظن، في مخالفات واضحة للمنهج الإسلامي في التعامل مع المسلمين، فتكون مصداقاً لما حذر منه آل محمد (ع) – الذين تحبهم – كما في حديث الإمام علي الرضا (ع): ((إن ممن يتخذ مودتنا أهل البيت لمن هو أشد لعنة على شيعتنا من الدجال!)) فسئل: "يا ابن رسول الله بما ذا؟" قال: ((بموالاة أعدائنا و معاداة أوليائنا؛ إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل و اشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق)) (صفات الشيعة حديث 14).
لا بد من تحذير كل من يحب أهل البيت (ع) من السقوط في هذا الموقف – أسوأ من الدجال! إن توضيح الإمام (ع) من أجلى ما يمكن في التحذير من نتائج الفعل – أي فعل –، فإنه (ع) يقول بأن الموقف الذي يحمل كل التناقض في داخل في موالاة أعداء أهل البيت (ع) ومعاداة أولياء أهل البيت (ع) يشوش على الحقيقة، فهو يخلط الحق والباطل وعندها يصبح المرء حاملاً لعلامات المؤمنين مع علامات المنافقين، وهذا الاشتباه يقضي على اللحمة بين المسلمين، في طريقه للقضاء على مقدراتهم وآمالهم.
فإذا قلت – أخي العزيز – أن الشيعة يظنون أن بعض الصحابة الكبار هم أعداء أهل البيت (ع) ولكنهم ليسوا كذلك وإنني إنما أحب الطرفين لأنهم كانوا جميعاً متآلفين متحابين، فإن هذا يمكن أن أعزوه لك إلى عدم المعرفة بحقائق التاريخ أو إلى التحليل السليم للأحداث، ولا بد لي أن أتجاوزه لأسألك:
هب أنني قبلت منك هذه النظرة، على أساس أنك لا تؤمن بالنص على علي (ع) وأولاده الأئمة (ع) في خلافة النبي (ص) مباشرة (على الرغم من النصوص القرآنية والحديثية الكثيرة، ولكن ليس هاهنا محلها)، وعلى أساس أنك لا تعرف بحقيقة ما جرى من تجاوزات عليهم (ع) بعد وفاة النبي (ص) مباشرة (على الرغم من اعتراف جميع علماء أهل السنة بها، وإن فسروها أو نصحوا بالتغاضي عنها، وهذا ليس لا محل عرضها ولا مناقشة ما ذهبوا إليه)، فهل يمكنك تفسير موقفك الموالي لمن وقفوا مواقف عدائية لأهل البيت (ع)، تلك المواقف التي وصلت إلى حد الحروب التي لا يمكن نفي وجودها، اللهم إلا أن نكتب تاريخاً جديداً لا أجد أن هناك أحداً يستطيعه، وإلا لفعلوا في الماضي؟
هذا الموقف منك – أخي العزيز – ليس موقف إدانة، فإني وإياك لسنا في محاكمة، معاذ الله، ولكن كيف نتحاور في مثل هذه المسألة المفصلية التي من شأنها إما الاستمرار في تدمير مقدرات الأمة أو أن يتم الاتفاق حولها بشكل أو بآخر كي تسير سفينة الأمة في خضم الأمواج العاتية المعادية من كل حدب وصوب؟
الإمام الرضا (ع) يقول لك: إن موالاتك لمن حارب علياً (ع)، أي حارب الحسن والحسين (ع) أيضاً حيث كانا جنديين في جيش أبيهما (ع)، لا يمكن إلا أن تكون تأييداً لمن أبغض علياً (ع) – اللهم إلا أن تكون الحرب دليلاً على الحب! ولا بد أن حديث النبي (ص) لعلي (ع) ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) قد وصلك فهو في غاية الاشتهار وفي أعلى درجات الصحة، وعندها فإنك تتخذ موقفاً يتضمن التناقض بعينه: المحبة الحقيقية وفي نفس الوقت موالاة الحزب المبغض المعادي؟
هذا الذي يجعل الأمر يختلط بين حق وباطل، وعندها لا يعرف المرء مؤمن أو منافق.
وصدقني – أخي العزيز – لو كان الأمر بيدي لوجهت المسألة توجيهاً ما، ولكن ماذا أفعل وهذه نصوص النبي (ص) بين أيدينا، وهي نصوص أعطتنا معياراً حاسماً واضحاً، وهو محبة علي (ع) وبغضه (ع).
فهل أترك قول علماء مدرستي وأتبعك؟!
كلا! لا أريدك أن تتبعني أو تتبع غيري ممن يخطئ ويصيب. بل انظر فيما نقلوا من حديث وتفسير لآيات الكتاب وما ناقشوه وما ردوا به على علماء مدرسة أهل البيت (ع)، ولكن لا تدع هذه الهبة العظمى التي وهبك الله إياها – وهي العقل – تقع فريسة هذا أو ذاك مهما كانوا، لأنك وإياي وجميع الخلق مسؤولون عما نقول ونفعل، وإلا لما أدان الله تعالى موقف الذين ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله)) فكان ردهم ((قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)) وذلك لأن هناك احتمالاً معقولاً أن تكون حالتهم هي ((أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)) البقرة:170.
يقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله: "وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس شيئاً ولكن تكونت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم وهذا جاهل؟"
ويكمل: "ليس العالم من وثق برأيه ومعتقد آبائه وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيراً حراً مطلقاً، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل، وإن كثر به القائلون وآمن به الأغلبون".
ثم إن علماء مدرستك لم يجدوا حرجاً في القرون الأولى من الاعتماد على روايات الشيعة، بل رجال الشيعة الذين كانوا من أشد الموالين لأهل البيت (ع) والمنافحين عنهم وعن مذهبهم، وهذا دليل على أن علماء مدرستك كانوا أكثر وعياً وأكثر حرصاً على تفسير القرآن وحديث النبي (ص) من المتأخرين الذين وقعوا هم أنفسهم ضحية التجهيل والسقوط تحت الضغوط المختلفة.
إن رفض أي شيء يقوله شيعي ليس موقف علماء السنة جميعاً، بل هو موقف المتعصبين منهم، وإلا فإنهم لم يرفضوا إلا رواية المعروفين بالكذب، وهذا ليس موقفاً متفرداً لهم إزاء الكذابين من أي جهة لأن الموقف العقلائي هو رفض رواية الكذاب، وهو موقف مدرسة أهل البيت (ع) التي قام علماؤها ولا يزالون بدراسة وثاقة الرواة حتى نشروا المجلدات في تقييمهم.
إن أهم كتب الحديث السنية، وهي الصحاح الستة، وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم، اعتمدت في الكثير من رواياتهم على رجال من الشيعة الذين لا شك في تشيعهم، بل أن بعضهم كان شديداً في التشيع حتى اعتبر ذلك طعناً فيه. هذا الأمر، أي الاعتماد على روايات الشيعة في صحاح السنة، تجده فاشياً بشكل كبير بحيث أن السيد شرف الدين العاملي عد مائة راو منهم وذلك في معرض إثبات هذه الحقيقة للشيخ سليم البشري رحمه الله شيخ الأزهر في محاوراتهما المعروفة بالمراجعات، فراجعها.
ولم يكن هذا الموقف من محدثي السنة جهلاً منهم بحقيقة هؤلاء الشيعة، على العكس، فقد كانوا يصرحون بتشيع الراوي مع أخذهم منه، موضحين موقفهم بالقول: "لنا صدقه وعليه بدعته"، أي أن صدقه الثابت لديهم يجعلهم يأخذون روايته بكل اطمئنان، حرصاً منهم على نقل حديث المصطفى (ص)، أما بدعته – لأنهم يعتبرون التشيع بدعة – فهو عليه لا يؤثر لا على روايته ولا على موقفهم منه.
هذا الموقف أجابتهم عليه بشكل إيجابي مدرسة أهل البيت (ع)، ليس على لسان عالم من علمائهم يمكن أن يناقش، بل على لسان أحد أئمتهم الطاهرين، فقد روي عن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (ع) أمره التالي: ((خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)، أي خذوا برواية السني الصادق واتركوا ما يراه من آراء في الاعتقادات أو تحليل الروايات.
وهذا الموقف هو بالضبط الذي أريده منك – أخي العزيز –: أن تأخذ بما وصلنا، لأنه هو الموجود بين أيدينا فلن نخترع شيئاً جديداً، ولكن لنجلس وننظر فيه كما نظروا، ونحلله كما حللوا، ونطابق بينه وبين غيره كما طابقوا، ولنستنتج كما استنتجوا، في اتباع للمنهج العلمي الموضوعي.
أسس النجاح، تذكير
أذكرك هنا بأسس النجاح التي ذكرتها في المقالة 4، مختصراً منها ما له علاقة مباشرة بحوارنا:
1: اتخاذ الإسلام قاعدة انطلاق البحث، أي أن نعقد – أنت وإياي – النية بيننا وبين ربنا أن يكون الحق الذي يتبين لنا هو الغاية، فلا يكون الإطار هو ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)).
2: أن يكون منهج القرآن في البحث والحوار والنظر هو المتبع، وهو منهج يوضح وجهة النظر بهدوء واحترام للآخر، ويعطي الآخر حقه في توضيح وجهة نظره والرد والنقاش.
3: أن تكون مصلحة الإسلام والمسلمين العليا مقدمة على غيرها، وهذا مبدأ إسلامي أصيل ينبثق عن مبدأ الأمة الواحدة، وتم تطبيقه من قبل أئمة الهدى من أهل البيت (ع).
4: الحرية، فإنها تكاد تكون غائبة في ذهنيتنا وما دُرِّسناه وألفناه في مناهجنا التعليمية والسياسية والاجتماعية، نتيجة ترسخ القهر السياسي أولاً، ولضعف الثقة بالنفس ثانياً، وهذا من أسباب خوف البعض من حوار المذاهب بحيث يصمونها بأنها تبشير.
5: أن نتناول ما بأيدينا من مواضيع البحث على أساس العلم، فإنه بدونه لا يمكن الوثوق من أي نتيجة لأنها ستكون مؤسسة على مقدمات – من نظر وتحليل وتركيب ومقارنات – مشوشة، اختلطت المشاعر والنظرة المسبقة فيها بالمعالجة العقلية، وبدون تحييد المشاعر والنظرة المسبقة ما أمكن فإن المعالجة العقلية ستعاني كثيراً.
التواصل منطلقاً منك إلي: الأسس
وأذكر بما ذكرته في المقالة 6 عن خط التواصل مني إليك لأن ما أرجوه منك – كما من نفسي – هو أن نتعامل بالمثل من الحسنى، واضعين نصب أعيينا قول نبينا (ص): ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، معدلاً بعض العبارات لتتناسب مع خط التواصل منك إلي:
أن لا تجد مشكلة في الحوار معي سواء كنت تراني عالماً أو متعلماً أو جاهلاً، وجيهاً أو لا، صاحب مكانة سياسية أو اجتماعية أو علمية أو لا، أي أن تنظر إلي كإنسان، هذا إذا لم تنظر إلي كعبد من عبيد الله ينطبق عليه قوله (ص): ((وكونوا عباد الله إخواناً))... وإن كان الذي أرجوه أن تنظر إلي كمؤمن ينطبق عليه قوله تعالى: ((إنما المؤمنون إخوة))، وإلا علامَ نتحدث عن الأمة الواحدة؟ فبعيداً عن المشاعر والأفكار وما تتصوره عني، وحتى عما تتصوره مما في نيتي من الحوار في هذه المواضيع، إني أرجو أن تقوم بواجبك نحوي في مناقشة ما عندي وتوضيح ما عندك من الحق الذي تؤمن به، لنزيل مما علق في أذهاننا – أنا وأنت – من افتراءات أو تصورات غير حقيقية أو جهل بالحقائق، ربما جاءتنا من أناس غير مأمونين علينا ولا على مصلحة الأمة، أو جاءت من خلال الجهد الشخصي الذي كان مقصوراً على ما قيل عنك لا ما قلته أنت عن نفسك.
وإلا فأي حوار نريد إذا كنا نضع شروط القبول بالرأي الآخر والخضوع إليه؟
القرآن الكريم علم النبي (ص) أن يدخل إلى ساحة حوار تضع الطرفين في مستوى واحد من الإحتمالات، قال تعالى: ((وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) سبأ:24. بهذا الشكل فإني سأشعر أولاً باحترامك لي، وثانياً بأن هناك إمكانية للغلبة العلمية أحدنا على الآخر. فإذا كان النبي (ص) يجلس مع الآخرين وهم أدنى منه في كل شيء، وبالتأكيد في العلم والحق الذي هو عليه، ليبدأ معهم من نقطة الصفر فيما يخص النتائج، فكيف بنا نحن – أنت وأنا –؟
إذا كان النبي (ص) ينهج هذا النهج في تحييد الشخص والتركيز على الفكرة، فلماذا نسير نحن وراء مشاعرنا التي هي نحو الشخص دون شك، لأن الفكرة من عالم العقل؟
أكثر من ذلك: على الرغم من قناعتك التامة بأن ما عندك هو الحق الذي ثبت لديك من الدليل القاطع فإنت ستجلس معي وأنت مقتنع – أو تضع احتمالاً ما – بأن ما عندي لم يأت من دنيا خارج دنيا الإسلام، إلا أنه مشوب بضعف لأسباب متعددة؛ وحتى لو كنت تعتقد أن ما عندي جاء من الخارج، أي من أقوام أرادوا الكيد للإسلام، كما ربما علموك ورسخوا في ذهنك، فإن من حقي الإسلامي، أو الإنساني، عليك أن تعطيني الفرصة لنفي ذلك أو تأكيده، وإلا ستبقى أسير ما قالوه عني لا قلته أنا عن نفسي.
كذلك، أن تضع نصب عينيك أننا من أهل "لا إله إلا الله" فلا يجوز سوء الظن بيننا.
لتكن معالجة الأمور بحثاً ملؤها تفهّم موقف الآخر الذي ربما لا يتمتع بقدرة كبيرة على ضبط انفعالاته، لأن هناك عبء ثقيل من التجهيل والتضليل بموقف الآخرين ونواياهم.
ثم، إذا كنت لا تحب أن تسمع رأي الآخرين في قناعاتك، عاملهم بالمثل بأن تتجاوز عن آرائك في قناعاتهم، اللهم إلا إذا كانت من صميم النقاش. ما الفائدة من معرفة رأيي بفلان – مهما كان مقدساً – إذا كان البحث هو لتحقيق هدف الأمة الواحدة التي ما ربطها القرآن بفلان أو غيره؟
ولو قلت لك رأيي بفلان، هل أنت على استعداد للتعامل تعاملاً عقلياً مع رأيي كي توضح لي الخطأ الذي أنا عليه مما تعتقده أنت؟
لنضع نصب أعيننا توجيه القرآن الكريم في منهج الحوار: ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا باللتي هي أحسن)) العنكبوت:46. مهما كانت ((اللتي هي أحسن)) ينبغي لنا – أنت وأنا – أن نعتمدها... مع ملاحظة كلمة ((أحسن)) فهي الأحسن دائماً من بين الخيارات التي بين أيدينا.
-
نقاط الخلاف بعد نقاط اللقاء
لنبدأ بالتأكيد على نقاط اللقاء المشتركة فيما بيننا، كي نرى إن كانت كافية لتأسيس أرضية مشتركة للتقريب بحيث يمكن التعامل مع نقاط الخلاف ونحن في أمان من الانزلاق نحو العداوة. إذا كانت "لا إله إلا الله" و "محمد رسول الله" محبة أهل البيت (ع) واحترامهم والأمل في رضوان الله والجنة مشتركة فهل يعقل أن تكون أي نقطة أخرى مانعة؟
إن هذه الأمور المشتركة الكبرى تقطع الطريق أمام ثقافة العداوة والتباعد والبغض والانغلاق، وتفتح الطريق واسعاً أمام المحبة والتقارب والتعايش وانفتاح كل منا على ما عند الآخر.
لنكن، أنت وأنا، مستعدين للتخلي عن سوء الظن. لنجلس معاً ونحن لا نعتقد بأن أحدنا يضمر شراً للآخر، أو أنه غير صادق فيما يدعيه؟
حاول أن تتعامل معي بإيجابية، لا على أساس ما ربما سمعته بأني جزء من مخطط عالمي كبير؟!
وإلا، كيف سنستثمر الوقت القصير في هذه الدنيا وقلوبنا تنطوي على الغل والكراهية؟
أكيد أن تغيير سوء الظن إلى حسن الظن ليس يسيراً، وربما ينبغي أولاً ملاحظة ما يشير إلى صدق الآخرين وخلوص نياتهم، إلا أن السؤال يبقى: ما هي المصلحة في إبقاء سوء الظن هو الفاعل؟
إذا نجحتَ وإياي في أن نفعّل ما اقترحته أعلاه، عندها أمامنا وضع الأسس العملية في بحث الموضوع الذي بين أيدينا، بانتهاج منهج أسسه هي:
أولاً – طريقة التعامل بين الطرفين، بالأسلوب الرقيق المحب، ((باللتي هي أحسن))؛
ثانياً – طريقة البحث في الأدلة، بانتهاج المنهج العلمي البحت الذي يفصل كل طرف ليس فقط عن ذاته بل أيضاً عن المشاعر الإيجابية أو السلبية تجاه شخصيات التاريخ التي ترد في البحث أو التي يدور حولها البحث؛
ثالثاً – الحاكم في النزاع هو الحق سبحانه، من خلال الكتاب والسنة ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)) النساء:59، ثم العقل القطعي الذي حث عليه الكتاب ((إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)) الزمر:21، والسنة ((ما عُبِد الله بشيء أفضل من العقل))؛ بعكسه ندخل في الشرك الخفي ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً)) النساء:65؛
رابعاً – ترك الجدال بالباطل، حرصاً على الوقت والجهد، بإعلان الطرف الذي اقتنع بوجهة النظر الأخرى ذلك دون عناد أو مداورة أو تكرار، فإن الحق تعالى يقول ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟)) الزخرف:23-24، فلماذا العناد ولماذا التعصب لرأي من الممكن عقلاً أنه خطأ... ولكن
خامساً – ترك الحرية للطرفين في اتباع ما تم إثباته، فإن حصول القناعة بشيء لا يعني اتباعه لأن هناك جوانب أخرى – غير العلم والاقتناع – تضغط على الإنسان فتمنعه من ذلك.
لا تكن عبد غيرك
من أقوال الإمام علي (ع) الرائدة: ((لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً))، فهو ينبهنا – أنا وأنت – إلى حقيقة كوننا أحراراً بالخلقة، لأن خالقنا هو الله، وهو الذي خلق غيرنا، ومنهم الماضين والحاضرين، فنحن وإياهم نتساوى في كوننا مخلوقين محدودين، ونتساوى في كوننا قد وهبنا القدرات الذهنية والنفسية والبدنية كما وهبوا، فعلامَ نتبعهم اتباع العبد لسيده لا يملك لنفسه رأياً ولا فكراً ولا نظراً؟
وهذا القرآن الكريم ينبهنا إلى هذه الحقيقة الواضحة: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)) البقرة: 21، فهو يأمر بعبادة المولى عز وجل بربط ذلك بكونه خلقنا أولاً، وخلق الذين من قبلنا ثانياً – وهم الجميع من آدم (ع) وحتى آبائنا المباشرين –، فقد تساوينا معهم في كوننا مخلوقين علينا واجب العبادة لنفس الخالق بغض النظر عن قناعات الماضين وأفعالهم. هؤلاء الماضون يتحدث القرآن الكريم عن علاقتنا بأفعالهم بقوله: ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون)) البقرة:134، وهذا يجعلنا أحراراً في تناول المواضيع كائناً ما كانت والوصول إلى نتائج واستنتاجات وقناعات خاصة بنا لا أن نحكم على أنفسنا حكماً مؤبداً أن نظل أسرى قناعات الماضين، لأنهم مسؤولون عن جهودهم وقناعاتهم وما قاموا به على أساسها ونحن لن نسأل عن ذلك.
أي نحن – أنا وأنت – أحرار في قبول ما توصلوا إليه أو تركه، اعتماداً على الدليل الذي وصلنا منهم أو غيره، لأن الغاية خارجة عن نطاقهم، فهي الله تعالى والجنة.
بالإضافة إلى هذا، إن حريتنا في البحث تفتح أمامنا الآفاق الأخرى التي لم يهتد إليها الماضون، ولا سيما فيما يخص القرآن الكريم، وإلا ما معنى قول علي (ع): ((لا تنقضي عجائبه ولا تفنى غرائبه)) وقول الباقر (ع) أن القرآن ((يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار)) في عطاء مستمر لا ينقضي؟
إن ما ورثناه عن الماضين ليس نحن، بل هو تراث محترم عظيم بدونه لا نستطيع الاهتداء إلى ما أراده الله ورسوله (ص)، ولكن ليس في كل شيء ولا في كل تفصيل ولا في كل الآفاق بحيث كأن الصحف طويت ولم يعد هناك مجال للبحث، لأننا بهذا سنخسر الكثير مما في كتاب الله وسنة النبي (ص) مما لم يزل علماء المسلمين وباحثوهم ومفكروهم يهتدون إليه كل حين.
أو هي العصبية إذاً!
بعيداً عن هذا المنهج لا أجدني قادراً إلا أن أصارحك أن العصبية هي التي تتحكم في طريقة تناولك لمثل هذه الأمور الخلافية (هذا إذا تركنا جانباً من ليس له اهتمام بهذه الأمور أصلاً). وهي حقيقة مرة أخشى أن الكثير من الناس أسرى لها، دون مبرر من دين أو عقل كما بيت في أعلاه.
وإذا كان كلامي حول هذه النقطة ليس مقنعاً، فإني أذكرك بالتحذيرات الشديدة من التعصب والعصبية:
كالحديث ((أيها الناس ربكم واحد وأبوكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب))،
و ((من تعصب فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))،
و ((من كان في قلبه مثقال خردل من عصبية جعله الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)).
وحديث آخر رواه ابن ماجة في سننه (12191) أن النبي (ص) سئل: "أمِنَ العصبية أن يحب الرجل قومه؟" قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)). وأي ظلم أشد من الاصطفاف مع الناس في قبول التهم والافتراءات على المسلمين وترديدها وتأسيس المواقف عليها والحكم عليهم بالخسران، في إطار من تعصب، دون تدقيق، لما عليه الآباء والأجداد، وما يقوله الناس هنا وهناك، وسوء ظن لا يقبل قول الآخرين حتى ولا أقسموا عليه بالأيمان الغليظة، فيساهم المرء – من حيث يدري ولا يدري – في استمرار تمزق الأمة وضعفها وذلتها وسقوطها وبقائها أمة تابعة غير متبوعة في شيء، مقودة غير قائدة في شيء.
ويبقى الخيار لك
صحيح أن موضوع الدين من أخطر المواضيع للإنسان المسلم الذي يحاول اتباع ما جاء فيه، بل لكل مسلم يقيم للدين وزناً، وبالتالي يخشى من السقوط في حبائل هذا أو ذاك فيتعرض للخسران، ولكن نفس الخطورة موجودة في ذات الموضوع، وهو الدين، في أن يكون المرء ساقطاً أصلاً في حبائل الجهلة أو أصحاب المصالح أو الأعداء الخارجيين، فيسير معهم دون تمحيص – نعم ربما سيشعر بالاطمئنان أن "الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه"، ولكن هل هو حقاً يعرف من يعرف؟ وهل من يعرف هو حقاً خير ممن لا يعرف؟
ويبقى الخيار لك...