وأشرنا إلى دور العلماء والوعاظ والخطباء والدعاة في تكوين حالة الكراهية والبغض، التي ترسخ حالة التباعد والتفرق، والتي بدورها تمنع الجهود الرامية للتعامل الإيجابي مع حالة التمزق والضعف والتخلف التي تعيشها الأمة.
أما العلماء فإنهم لم يستطيعوا التخلص من التنشئة منذ الصغر بشكل عام التي تلقوها من الأهل والمجتمع ولا من النظرة إلى الآخر – المذهبي والفقهي – أنه منحرف أو مبتدع أو أسوأ، بحيث تجد معظمهم يضيقون ذرعاً بنقد أي مورد واضح للنقد في المذهب الذي ينتمون إليه ولكنهم أحرار تماماً في تقييم ونقد والتهجم والتبديع والتفسيق، وحتى التكفير، للآخرين. بعبارة أخرى، تغيب عن الكثير منهم، إن لم نقل أكثرهم، الذهنية العلمية والمنهج العلمي، ناهيك عن ضعف في التقوى عندما يأتي الأمر إلى النقل عن الآخر وتأويل كلامه.
ولأن الأمور الخلافية تخص جوانب معينة فإنك تجدهم أكثر مرونة في البحث حول أمور هي أكثر أهمية من الأمور الخلافية في حين يفشلون في بحث الأمور الخلافية بشكل موضوعي، هذا إن رضوا ببحثها أصلاً. مثلاً: يجد البعض أن البحث الموضوعي في الله تعالى مع الملحدين أمراً ممكناً على أساس التوجيه القرآني في إلقاء الحجة من خلال الخلق والرزق وما في السماوات والأرض، والبحث الموضوعي في طبيعة المسيح (ع) ممكناً على أساس التوجيه القرآني ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا باللتي هي أحسن))، لكنهم يجدون أنفسهم عصية عندما يأتي الأمر إلى الخلاف حول منازل أشخاص يبقون – مهما علت منازلهم – عباد لله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، مع أن الخلاف حول الله والمسيح (ع) خلاف في الأصل الأول للإسلام وهو التوحيد والذي تتفرع منه باقي الأصول والفروع. ويصل الأمر بالبعض ليس إلى منع البحث فحسب ولكن إلى منع الاستماع إلى المخالفين، في تجاف جاهل مجهّل لا يليق بمن يعتبرون أنفسهم علماء.
أما الوعاظ والخطباء فهؤلاء قصة أخرى لأنهم أشد تأثيراً بلحاظ التماس المباشر مع الجمهور والتواصل الكثير معهم. وقد وصف بعض هؤلاء بأوصاف تدين ما يقدمونه إلى الناس، مثلاً أنهم "قصّاص" يستخدمون القصص معرفة منهم بشدة تأثيرها على الناس (حيث تبقى القصة والتصور القصصي مما يتبقى للإنسان من مرحلة طفولته). وإذا كانت القصة الواقعية – على فرض حسن النية وأن الرجل على المنبر لا يكذب وهو يعلم أنه كاذب – لها هذا التأثير المعروف، فكيف بقصص الرؤيا والأحلام التي هي ليست واقعية أصلاً، مع ذلك تروى وكأن ما تحمله من معان لا شك فيها بحيث يؤسس عليها أفكار ويتفاعل مع الجمهور وكأنها قصص حقيقية صحيحة.
العقل والشعور
هذه الأمور النفسية التي "يعاني منها" الفرد عموماً وفي مجتمعاتنا الشرقية خصوصاً، ومنها المجتمعات المسلمة، والتي بدأت منذ الصغر والتنشئة، وترسخت في المرحلة بعدها عندما بدأ الوعي ينمو ويشتد، ثم صارت تتلقى الجرعة تلو الأخرى من الوعاظ والخطباء والدعاة والكتاب والشعراء والأصدقاء وكل من له علاقة بالفرد، وفي جميع هذه المراحل تم الربط المحكم بين الأمور الخلافية وكراهية الآخر أو مقدسي الآخر وتفضيل التباعد والانغلاق والانعزال، فصارت القضية المذهبية قضية لا تتعلق بالمحتوى الفكري والمفاهيمي وعليه لا بد من تناولها بالشكل العلمي الموضوعي، بل صارت قضية تتعلق بالشعور والعاطفة، وعليه فلا يمكن القيام بأي بحث حول أي أمر خلافي بعيداً عن الانفعالات والتشنج والغضب إلى درجة السقوط في حالة الشتائم والسباب واللعن والرمي بكل قبيح حتى وصل الأمر إلى قذف الناس في أعراضهم والطعن في أنسابهم جملة.
هذه الحالة الخاضعة للمشاعر والبعيدة عن الموضوعية تلمسها بوضوح إذا تصفحت مواقع شبكة الانترنت، خصوصاً المنتديات، لتجد – علاوة على الشتائم ورمي الناس في أعراضها – خفة في العقول والتقييم بحيث تقرأ المدح والثناء على لقطات من السباب والقذف التي تتميز ليس فقط بالغياب التام للتقوى ولكن أيضاً بالسخف والرقاعة.
حتى الذين يظهرون على القنوات التلفزيونية الذين يراقبون أنفسهم فيما يقولون ويتصرفون، تجد بعضهم يجيب على أسئلة المشاهدين بمنتهى الرقة والمحبة الظاهرية للمسلمين وكيف ينبغي لهم أن يتعاطفوا ويتراحموا ويكونوا عباد الله إخواناً، فإذا ما جاء سؤال يتعلق بالمخالفين أو ما يثيره المخالفون من مسائل تزعجه، إنقلب إلى شخص آخر، فصارت يداه تتحرك بعصبية ووجهه يمتقع وعينه تنظر شزراً، فلا عجب إذا جاء الجواب محملاً بالمشاعر والانفعالات التي لها أن تشوش الجواب على السائل والمشاهدين حتى إذا كان فيه شيء من العلم.
هذه الحال، المؤسسة على التنشئة والمترسخة فيما بعد والمتعرضة لجرعات التوجيه بنفس الاتجاه الانغلاقي الانعزالي ينبغي تناولها بشكل موضوعي يتفهمها ويتفهم من أين أتت وكيف أن الذي يعاني منها – ونحن نتحدث عن أكثرية أفراد الأمة الذين يعانون منها بدرجة أو أخرى – لا يقوم بأفعاله أو ردود أفعاله على ضوئها وهو يضمر في نفسه السوء، بل إن الغالبية العظمى من عامة الناس وشريحة كبيرة من العلماء والوعاظ والخطباء والكتاب والدعاة يعتقدون أنهم على الصواب في هذا النهج الذي يحفظ الحق الذي هم عليه، ذاهلين عن احتمال أن يكونوا على الباطل أو على حالة من حق وباطل اختلطا لأسباب متعددة، وهي حالة لا أظن أن مذهب من مذاهب المسلمين نجا منها.
هذه الحالة حالة خطيرة جداً نقرؤها في القرآن في قوله تعالى: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) البقرة:11-12...
كيف يعرف الفرد العادي من عامة الناس أن ما يعتقده حقاً إنما هو باطل؟
وكيف يعرف الكاتب والشاعر الذي يضمن قطعه الأدبية لمحات تاريخية أن ما يضمنه لم يحدث؟
وكيف يعرف الخطيب والواعظ والداعية أن هذا التفسير وذلك التأويل وتلك الرواية وتينك التهمة للآخر باطل في باطل في باطل في باطل؟
بل كيف يعرف العالم أن هناك خللاً في مرتكزات اجتهاده بحيث أن ما توصل إليه هو باطل؟
كيف نعرف أننا لم نقع في الفخ الذي صورته الآية الكريمة: ((أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً)) فاطر:8؟
بل كيف نعرف أننا لسنا من موارد قوله تعالى: ((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)) الكهف:103-104، فتضيع جهودنا ونخسر أعمالنا فلا تنفعنا في الآخرة، فكأننا لو كنا جلسنا لا لنا ولا علينا لكان أجدى لنا...
العصبية
إن النتيجة المتوقعة لغلبة المشاعر على العقل في التقييم، وغلبة العاطفة على الهدوء في التناول، واستمرار التوجيه نحو الانغلاق والانعزال والبعد عن الآخر إلى درجة الابتعاد الواقعي عن اللقاء في المجتمع، هي العصبية المذهبية الطائفية. إنها عصبية مذهبية طائفية لأن المشاهد المعاش واضح في أن العصبية تشمل الأمرين: التعصب إلى المذهب بما هو فكر ومفاهيم وعقائد وأحكام، والتعصب إلى الطائفة بما هي أفراد وجماعات وشعائر وممارسات ومصالح.
فإن ما ذكرته من النشأة والتربية والتوجيه منذ الطفولة مروراً بتفتح الوعي وحتى ترسخ المفاهيم والاعتياد على كلام وممارسات وتهم وافتراءات هي التي تشكل الهوية الدينية للفرد، فيصبح سنياً لا مسلماً سنياً، وشيعياً لا مسلماً شيعياً، لأن الأول يعني حالة الانعزال والانغلاق التي تؤمن بقاء المذهب صافياً من التأثيرات الخارجية في حين أن الثاني يعني تقديم العنصر الإسلامي في الشخصية وبما أنها موجودة عند الآخر فإن ذلك من شأنه توجيه الفرد – وإن بشكل خفيف – نحو التلاقي مع الآخر، ما يعارض التوجيه الانعزالي الانغلاقي.
وتصل العصبية مديات أعلى عندما نرى تقبل بعض المسلمين للتعايش والحوار الموضوعي مع غير المسلمين بينما نراهم يفشلون في فعل ذلك مع المسلمين المخالفين. ليس المشكلة في تفسير الأمر، لأنه من الواضح أنهم لا يشعرون بتهديد عقائد أتباعهم من الأديان الأخرى ولكنهم يشعرون بذلك من المسلمين المخالفين، ولكن المشكلة في الأمر نفسه، إذا كيف يمكن التعايش مع من تختلف معه في أهم الأسس وهو التوحيد والنبوة – أي شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله التي هي عنوان الدخول في الإسلام والاستمرار عليه – ولا يمكن التعايش مع من تتفق معه فيها؟
وهنا تذكير بأمر هام: إن التوجيه الانعزالي الانغلاقي ومشاعر الكراهية والبغض ليس كله نابعاً من حسن النية بحيث أن الموجِّه مقتنع أنه يقوم بالإصلاح، أي أن عمله زين له، حسب المفردات القرآنية، بل أن الكثير منه نابع من المصالح الذاتية الدنيوية – مناصب ووجاهة وشهرة وأموال، وعندها لا يهم من أين تأتي، فيتم قبول ما يأتي من أعداء الأمة وبالتالي فلا يمكن أن يكون ذلك إلا شراً (طبعاً بعد ما صار بعض مناطق الأمة يتمتع بالغنى الفاحش صار أعداء الأمة لا يحتاجون حتى إلى الإنفاق من جيوبهم كي يقوم الموجِّهون بأدوارهم المدمرة، لأنهم وجدوا أن بعض الأمة مستعد لهذا الإنفاق).
أحاديث ضد العصبية
قال النبي (ص): ((أيها الناس ربكم واحد وأبوكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب)) رواه أحمد في المسند، والطبراني في الأوسط، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2964. وعليه فلم العصبية والأصل واحد؟
وقال (ص): ((من تعصب فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))، ما يعني أن التعصب ارتداد.
ومثله حديث الإمام الصادق (ع): ((من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)) )وسائل الشيعة ج11 ص296(.
وحديث الإمام (ع) عنه (ص): ((قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من كان في قلبه مثقال خردل من عصبية جعله الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية!)) نفس المصدر.
والله إن المرء ليشعر بالخوف الشديد من أن يكون قد سقط، وإن بشكل قليل جداً، في تلك البئر العميقة التي من الصعب انتشال صاحبها، لأن "مثقال خردل" أقل من القليل جداً.
أما لماذا يصبح المتعصب خارجاً عن الإيمان، فلأنه يصبح عابداً للأهواء ومقدماً للجهة التي يتعصب لها على الله تعالى. أي أنه يصبح عابداً للهوى الميال إلى العشيرة أو القوم أو الطائفة أو الجماعة أو مواطني البلد إضافة إلى عبادته لله تعالى، فهو، إذاً، قد أشرك بالله.
هذا، إذا كان ملتزماً بعبادة الله تعالى، بدرجة أو أخرى. أما إذا كان قد أهمل أمر الدين بشكل كامل أو شبه كامل، كأن إذا انضم إلى جماعة لا تقيم للدين وزناً، فإنه يصبح عابداً للهوى – تلك الجماعة أو غيرها مما يتعصب له – من دون الله، أي قد خرج من الإيمان بالله تماماً أو قريباً منه.
ويبدو عجيباً لأول وهلة قول النبي (ص) أن الذي "يُتَعَصَّبُ له" هو الآخر خارج من الإيمان، إذ ما ذنبه هو إذا كان غيره هو الذي قام بفعل التعصب. فلا يبقى إلا احتمالان:
الأول هو أن الشخص موضع التعجب كان هو الذي أمر أو شجع أو حث على التعصب له بوسائل مختلفة ومن خلال قنوات مختلفة؛
الثاني هو أن هذا الشخص لم يقم بما يجب عليه لإيقاف المتعصبين من التعصب له؛
أو أن الاحتمالين واردان.
ولعلنا لا نجد تحذيراً بلغة أوضح وأكثر شدة وحسماً من هذا، ولكن مع الأسف العصبية مستشرية في الأمة أفراداً وجماعات، في كل زمان ومكان.
فهل يمكن لعاقل أن لا ينتبه إلى هذا الأمر وينظر فيما انطوت عليه نفسه وما يصدر منه من مواقف كيلا تكون مما يرديه في تلك النتيجة؟
العلم والموضوعية مع التقوى
هذا لا يمكن أن يكون إلا باتخاذ منهج العلم والتعاطي الموضوعي مع الأمور الخلافية من جانب، وتقييم الآخر والنظرة إليه من جانب آخر، فكما أنك غير مسؤول عن معتقدات وأفكار وممارسات جماعتك فإن الآخر غير مسؤول عن معتقدات وأفكار وممارسات جماعته وكلاكما غير مسؤول عن واقع الحال في الأمة، فلم العصبية ضده؟
وأذكر بقوله تعالى: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) المجادلة:11 للتنويه بموقع العلم بعد الإيمان. هذا الإيمان الذي لا يمكن أن يبقى غير مخدوش إذا تركته التقوى، لذا تجد القرآن ينبه إلى حالة التقوى المطلوبة في الكثير من الأحوال: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)) الأحزاب:70، ((ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا، هو أقرب للتقوى)) المائدة:8، ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) براءة:119...
التقوى التي ينتظر أن تكون نصب أعين العقلاء أو الذين يريدون انتهاج النهج الموضوعي: ((واتقون يا أولي الألباب)) البقرة:197.
النهج الموضوعي وعقل الجماعة
ورد في الروايات الحث على التشاور وأخذ الرأي والنصيحة، من قبيل: ((من شاور الرجال شاركها عقولها)) أو ((ما خاب من استخار ولا ندم من استشار))، التي توحي، بل تؤكد، فائدة التشاور ومحاولة الحصول على النصيحة – أي مثلما يطلب الإنسان العون البدني فيما لا قبل له به فإن من مصلحته طلب العون العقلي فيما يستعصي عليه أو يشكل عليه أو ما هو غير متأكد منه.
لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن عقل الجماعة أفضل من عقل الفرد دائماً، فكم من جماعات ذهبت إلى التهلكة بعد أن رفضت نصائح أفراد قلائل منها، وكما من جماعات استفادت أيما فائدة عندما انتصحت. بل إن بعض الأفراد غيروا وجه الدنيا عندما بخعت لما جاؤوا به، وإن كان هذا في الجانب المادي لا العقدي لأن الأخير مؤطر ليس بالمفاهيم والأفكار فحسب ولكن بالمشاعر والعواطف والعصبيات أيضاً كما نطرح ها هنا.
بالإضافة إلى تحذير القرآن الكريم من القبول التلقائي لما جاء من الآباء والأجداد لإمكانية كونه خطأ وباطل فإنه حذر في آية عظيمة من الانخداع بعقل الجماعة (أو الجمعي كما يعبر عنه أيضاً) من خلال توجيه واضح بتناول الأمور بشكل مختلف. قال تعالى: ((إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى وتتفكروا)) سبأ:46.
في هذه الآية حث بأشد ما تسمح به اللغة، فقد استخدمت كلمة الحصر "إنما"، فكأن الحق تعالى يأمر رسوله (ص) بأن يقول للناس أنه لا يريد أن يعظهم إلا بهذه الموعظة، وهذا دليل على أهميتها البالغة – وإلا فإن المواعظ الربانية لا تقف عند هذه كما هو واضح.
ثم يأتي شكل التعاطي مع الموعظة، بأن "يقوم" الناس، وهذه ربما تدل على شدة الأخذ بالموعظة، مقارنة بغيرها مما كان يمكن أن يستخدم، مثلاً "تتفكروا مثنى وفرادى" أو أن "تجلسوا"، لأن القيام أقوى كعمل بدني من غيره.
وأما الغاية فهي الله تعالى، لأن القيام "لله" وليس لأجل دنيا أو أحد العباد.
ثم تأتي الموعظة بالتفكر من خلال إحدى حالتين: إما أن يتفكر الإنسان لوحده أو مع شخص آخر واحد فقط ليكونا إثنين. وهذا يعني أن يتفكر الإنسان لوحده إذا كان يجد في نفسه القدرة على النظر والتحليل والتركيب والتقييم والاستنتاج، أو أن يقوم بكل ذلك مع شخص آخر يجد فيه تلك القدرات فيكمل أحدهما الآخر لأن الآخر ربما يطرح نقاطاً أخرى غفل هو عنها؛ أو أن يقوم بالأمرين معاً.
على أية حال، الآية واضحة في الحث على الابتعاد عن مجموعة من الناس، كبيرة أو صغيرة، وذلك لأن كثرة الآراء من شأنها إفساد التفكير الهادئ والتشويش على التعاطي، كما أن من شأنها الإعادة والتكرار غير المفيد، إضافة إلى اشتداد النزعات الداخلية من كِبْر واعتداد بالرأي وحسد وغيرها مما يستطيع الإنسان التعامل معها مع شخص واحد أمامه أسهل مما مع جماعة من الناس، لأن سقطاته أمام شخص تقلل من شدة الإنزعاج أو الوجع الداخلي فيما لو اطلع عليه غيره وغيره.
الدعوة إلى أهل البيت (ع): الموقف الشخصي
وفيما يخصني شخصياً، كوني أدعو إلى أهل البيت (ع) على أساس من المحبة والفهم للقرآن والسنة والتاريخ والسيرة، فإني أحب الإشارة إلى أن الدعوة إلى أهل البيت (ع) ليست دعوة تبشيرية طائفية، وذلك لما يلي:
-
لأنها دعوة إلى فكر وعقيدة فهي محاولة لإقناع آخرين بوجهة النظر، أو توضيحها على الأقل، لمكسب دنيوي أو أخروي أو الاثنين معاً، أما الدنيوي فيكاد في حالة التشيع يكون معدوماً، وأما الأخروي فإنه مضمون بدعاء الأئمة (ع) في قولهم: ((أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)).
-
لأنها ليست للانتماء إلى الطائفة كطائفة، بل لعقيدة وفكر، أي أن دعوة غير الشيعي للإيمان بولاية علي (ع) دون الالتزام بالصلاة مثلاً لأن هذه الولاية تفرغ من محتواها بهذا الشكل.
-
لأن الذين يحيا أمرهم أصحاب منهج توحيدي أبعد ما يكون عن الطائفية (أنظر مقالة 10 فيما سيأتي).
-
هذه الدعوة إذا كانت في إطار منهاج متكامل لضرب الفجوة الطائفية فهي ليست طائفية.
-
الشيعة الذين يدعون إلى إحياء الأمر أثبتوا أنهم أقل من غيرهم طائفية فيما يخص الجانب الفكري، لأنه من الممكن أن يكون بعض غيرهم أقل تشدداً في مد الجسور في الجانب الاجتماعي مثلاً. أما الجانب الفكري فيمكنني القول بناء على الواقع المعاش:
-
الدراسات الشيعية تحتوي على إشارات إلى الفكر والآراء والفقه السني في حين تخلو الدراسات السنية من أي إشارة إلى الشيعة وآرائهم.
-
تحتوي المكتبات الشيعية على كتب السنة ولا يوجد العكس
-
نفس الشيء بالنسبة إلى مكتبات بيع الكتب
-
نفس الشيء بالنسبة إلى مكتبات الجوامع والمساجد والجمعيات الإسلامية
-
مد اليد للتعاون في شتى المجالات
-
معظم الشيعة ينظرون إلى السنة أنهم إخوانهم يجهلون الحقيقة وأن ذمتهم بريئة باتباع مذاهبهم السنية، في حين أن الكثير من السنة لا ينظرون إلى الشيعة إلا كونهم مبتدعة منحرفين. (نعم، هناك من الشيعة من يحكم على أهل السنة بالابتداع والخسران، ولكن هذا ليس موقف علمائهم الذين حكموا بأن الخاسر هو الذي يقتنع بحقيقة أهل البيت (ع) ودورهم ويكن يستمر بإنكار ولايتهم، وهو الوصف الوارد عنهم (ع) ((من جحد ولايتنا بعد الإقرار))، أما الذين لم يعرفوا أو سمعوا ولم يفهموا أو لم يقتنعوا حقاً فهؤلاء تبرأ ذمتهم بما اقتنعوا به.)