عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
7 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور قبل خمسة أيام،
قال (عليه السلام):
(( لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ
فِيمَنْ يُحِبُّ ))
***
المعنى الإجمالي:
الحيف = عدم الإنصاف
البغض = شدة الكراهية، شعور عكس الحب
الإمام (ع) يقول أن "التقي" لا تجعله شدة
كراهيته للآخر يبتعد عن الإنصاف معه، في حقوقه المادية أو المعنوية من احترام أو
تعامل أو حتى تقييم بالرأي.
الإثم = الذنب
الحب = الشعور القلبي بالقرب من الآخر المحبوب
يقول (ع) أن "التقي" لا تخرجه محبته
لمحبوبه عن التوازن بحيث يسقط في "الغلو"، إما يعبر عن حبه بطريقة خارجة
عن المعقول أو يصطف معه ضد الآخرين بشكل مبالغ فيه يتضمن التعدي عليهم.
***
المغالاة في الحب والبغض
لماذا هذا الافتراء المستمر من الناس ضد من يبغضون؟
حتى بعد التذكير فإنهم يستمرون، ويوغلون في الحيف وصولاً
إلى الشتائم والطعن في كل شيء؟
هذه "العركة" على الدنيا، التنافس،
المصالح، التعصب الديني والطائفي والقومي والعنصري والقبلي والحزبي، يملك على
المتعصب نفسه فلا يبقى للخالق تعالى إلا الأقل من ذلك الحيز في نفسه، لهذا تجد
بعضهم كالمخبول في تعاطيه مع القول الحسن، بل بعضهم وكأنه يريد الانتحار وليسقط كل
شيء على رؤوس الجميع!
نفس هذه "العركة" نجدها تسقط الكثيرين في
غلو الحب لمن يحبونه فيصطفون معه حتى لو كان ظالماً مخطئاً، بل حتى لو كان ظلمه
وخطؤه مدمراً لهم هم أنفسهم!
والحالتان نجدها في كل مكان، تمتد إلى جميع الشخصيات:
شخصيات التاريخ / المبغض يظلم هذه الشخصية أو تلك
بحيث يقلب حتى أفعالها الحسنة سيئات، والمحب يغلو في نفس الشخصية بحيث يقلب
مخازيها حسنات!
مثال –
رووا أن النبي (ص) أرسل في طلب شخص، فقيل له أنه يأكل،
فأرسل ثانية، فرجعوا بنفس الجواب، ثم الثالثة ونفس الجواب؛
عندها دعا (ص) عليه: ((لا أشبع الله بطنه!))
المغالاة في حب ذلك الشخص جعلهم يحاولون تكذيب
الرواية، فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً عمدوا إلى قلب هذا الدعاء النبوي المستجاب
قطعاً من دعاء عليه إلى دعاء له!
إخترعوا رواية فيها يقول النبي (ص) أنه طلب من الله
أن يجعل من يدعو (ص) عليه رحمة وثواباً، وبالتالي فإن دعاءه "على فلان"
انقلب إلى دعاء "له"!
ومن الحب ما قتل!
فإذا كان هذا حال المغالي في الحب، يسقطه بالإثم قطعاً
لأنه يتهم سيد المرسلين (ص) بالظلم، فما بالك بمن هو أقل منه (ص)؟
وقس على هذه ما سواها في شخصيات التاريخ والسياسة في
الماضي والحاضر.
***
الواقع المرتجى
هو واقع "المتقين"، وهو على العكس، لأن
الحيز لـ "الخالق" في نفوسهم هو الأكبر الأعظم، صار الله مقدماً، وعندها:
لا يمكن أن ينتصر لطائفته أو عشيرته أو حزبه أو غيرهم
من عصبته بالباطل، بل يقول الحق ولو على نفسه وأهله + لا يغلو "فيمن
يحب"، لأن الغلو يخرجه عن الحق فيسقط في الإثم – الغلو في المقدسين، الغلو في
الرؤساء، الغلو في الأهل الخ.
***
كيف نستطيع الاتصاف بذلك؟
من ناحية من نبغض، نتذكر قوله:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى
ألاً تَعْدِلُوا إعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)) المائدة:8
يأمرنا أن تكون شهادتنا في الناس لله وليس للدنيا،
إذاً تكون بالعدل،
فلا نسمح لبغضنا للآخر أن يسقطنا في
"الحيف" عليه،
فيأمرنا بالعدل،
لأنه أقرب "للتقوى" – التقوى مرة أخرى،
ثم يأمرنا بـ "التقوى" مرة أخرى،
ولا ننسى أنه ((خبير بما تعملون)).
شدة البغض للآخر لا تدفع باتجاه "الحيف"
إذا كان الخالق "عظم" في نفوسنا، لأن الآخر، مهما أبغضناه ولأي سبب، سـ
"يصغر"، فلا يمكنه أن يسقطنا في فخ "الحيف" عليه.
ومن ناحية من نحب، نتذكر قوله تعالى:
((وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه)) البقرة:165
وبما أنه من المستحيل أن يقبل الله "الغلو"
في أي شخص مهما كانت مشاعر الحب نحوه،
فأن يكون المرء ((أشد حباً لله)) تعني أن يكون الله
في نفسه "أعظم" من غيره، وعندها "يصغر" ما دونه،
بحيث لو كان من الأنبياء والأولياء (ع) فإنه يبقى
يحبهم أشد الحب ولكن دون مغالاة.
***
فهذا هو الحل:
تفعيل ((عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ
فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ))
عندها سيصغر عندنا ما دونه تلقائياً،
وفي ذلك الراحة والرضا في الدنيا والسعادة في الآخرة.
***
من يجد نفسه عصية عليه عندما يقول له عقله "هذا
حق هذا صحيح"، فعليه:
- بمراجعة نفسه وجعلها تواجه المنطق الذي لا تريد
قبوله
- الدعاء بخلوص نية من أجل أن يوفقه الله
- تذكر الآيات الكريمة أعلاه
- الشعور بالرضا في تصور تساميه على
"عركات" الدنيا التي تجعله كالمخبول أو المتشنج ضد من يبغض أو مع من يحب
- التفكر في التسبيحات أدبار الصلوات (تسبيحات
الزهراء (ع)) / "الله أكبر" من كل من نبغض ومن نحب، "الحمد
لله" نعمة حب أوليائه من العيب أن نجعلها في منافسة مع بغض هذا أو ذاك،
"سبحان الله" هل حقاً سما الله عندك فوق كل هذه "العركات"؟
عظّم "الخالق" في نفسك، وعندها لن يقف شيء
– داخلها – في وجهه عز وجل، وأنى يكون ذلك؛
ولا قوة إلا بالله.
(يتبع)