عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
6 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور قبل أربعة أيام،
قال (عليه السلام):
(( يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ
حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ ))
***
المعنى الإجمالي:
الذي يتصف بـ "التقوى" يجمع له علي (ع) هنا
ثلاث خصال:
1- يتجاوز
بالعفو عن الذي يظلمه، مختلف أنواع الظلم
2- يتفضل
بالعطاء على الآخر الذي حرمه العطاء
3- يبقي حبل
الوصل ويمد الجسور مع الذين يقطعونها.
ثلاث
خصال، يتصرف في كل منها على العكس من تصرف الآخر.
***
الواقع المؤسف
الواقع الذي نعيشه لو أنطقته لوصف هذا
"التقي" بالضعف أو الغباء وربما الجنون!
الواقع = الظلم + الرد بالظلم وأكثر
الواقع = الحرمان + الرد بالحرمان وأكثر
الواقع = القطع/الهجر + الرد بالهجر وأكثر
و "أكثر" هذه نجدها في الرد بأشد من ذلك
الظلم والحرمان والهجر،
ونجدها في الزيادة بالذم والسب واللعن والتبرؤ،
ونجدها في المبالغة والكذب والافتراء،
ونجدها في تأليب وتحريض الآخرين في علاقاتهم بالآخر.
***
جذر المشكلة
لماذا هكذا الناس لا يستطيعون تجاوز الظلم والحرمان
والقطع؟
ربما نستطيع تقسيم الحالات إلى مجموعتين:
(الأولى) الضعفاء الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن عمل
شيء لتجاوز المحنة ((المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلاً)) النساء:98، لا يجدون طريقة للتعامل مع الظلم والحرمان والهجر غير
الرد بالمثل.
(الثانية) الذين عندهم من المؤهلات والقوة ما
يستطيعون به التجاوز ولكنهم يصرون على عدم التجاوز؛ ومهما حاولت معهم بالتذكير
((وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم)) النور:22، فهو لا ينفع ويصرون
على الموقف المتصلب؛
هؤلاء جذر مشكلتهم هو "النفس المتكبرة"،
هذه من أخطر ما يواجهه الإنسان في حياته كلها –
تثيره كلمة ضده، تزعجه نظرة شزر يرمى بها، ينقلب في
لحظة إلى حيوان هائج لجملة نقد توجه إليه،
فما بالك إذا "ظُلِمَ" أو
"حُرِمَ" أو "هُجِرَ"؟
هذه "النفس المتكبرة" تشعر أنه تم
"التجاوز عليها" بما لا بد من الرد عليه،
وعندها يغلق العقل، بل السمع نفسه، عن أية نصيحة أو
تذكير بعائدة العفو والعطاء والوصل -
"لا والله، حتى أذلّه أمام الناس كلهم!"
"سأجعل زوجي الظالم هذا علكة في أفواه
الناس!"
"أنا أتصل بعد أن أهمل اتصالي مرتين؟ لن أتصل به
مطلقاً وليذهب إلى جهنم!"
بل تصبح مثل هذه النصائح بمثابة "اصطفاف مع
الآخر" –
"مع الأسف، كنت أتصور أنت صديقتي وستقفين معي
ضده!"
"أنت أمام خيارين: أما أنا أو هو!"
***
الواقع المرتجى
"تعفو عمن ظلمك" + "تعطي من
حرمك" + "تصل العلاقة بالذي هجرك"!
لا نزيد على توجيهات النبي (ص) ((صِلْ من قطعك وأعطِ
من منعك واعفُ عمن ظلمك))،
لأنها هي التي تجعلنا نتصف بصفات المتقين.
عائدة هذا الواقع هو:
"تشجيع" من ظلم أو حرم أو قطع على
"إعادة النظر" في مواقفه وطريقته
+ ذوبان الثلوج في العلاقات بتأثير حرارة شمس صفات
المتقين
+ إعطاء المثل الراقي للآخرين، ولا سيما الناشئين
+ العطاء الرباني الذي يفوق ما فات بما لا يقاس ((ألا
تحبون أن يغفر الله لكم)) – من يضيع مغفرة الله من أجل أن يشفي صدره من الظلم؟
قال علي (ع) ((لا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك
بلوغ لذة أو شفاء غيظ))،
فهل تهتدي بهذا الهدي أم تخضع لأمر النفس المتكبرة أو
الأحوال الضعيفة؟
***
قل لنفسك:
أي قيمة للظالم، أو الذي يحرم، أو قاطع الصلة، مقارنة
بالخالق العادل، المعطي، الذي لا تنقطع صلته أبداً؟
ما حجم الظلم والحرمان والصلة إلى نعم الله واللقاء
به وقتما تريد؟
تذكر قول علي (ع) في وصف المتقين
((عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ
فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ)).
عندها سيصبح ما يأتيك من ظلم أو حرمان أو هجر من
"ما دونه" أصغر حجماً، وبالتالي أضعف أثراً عليك في الذي يسببه من ألم
أو حاجة أو حزن.
***
تذكر العلاجات العملية
- مع الذي
ظلمك / ما رأيك بطريقة "المنطاد"؟ (الحلقة 3)،
ولكن بدلاً من أن تفجر المنطاد، قم بالنظر من بعيد
والمنطاد يبعد ويصغر،
وخاطب "الظالم" بالقول: "أنت وظلمك لي
لا أكثر من نقطة في حياتي؛ لن أدعها تؤثر
عليّ؛ والدليل أني عفوت عنك" + إشعر بالرضا من موقفك بالعفو + أدع
"الخالق" العظيم في نفسك "اللهم أمرتني بالعفو عمن ظلمني لقاء عفوك
عني، وقد فعلتُ، فأسألك اللهم أن تعفو عني".
- مع الذي
حرمك / مثل طريقة تصور الحديقة الجميلة (الحلقة 4)،
بتصور قيامك بالعطاء لذلك الشخص الذي حرمك، وقد ذهب
ما في نفسك ضده + إشعر بالرضا + أدع "الخالق" العظيم في نفسك أنك اهتديت
بهدي النبي (ص) فتنتظر الجائزة.
- مع الذي
قطعك/هجرك / مثل طريقة الحديقة الجميلة،
تتصور أنك جالس معه تتحادثان، ولم يبق بينكما ما يكدر
صفو الود، فكأنكما في جنة الخلد ((ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر
متقابلين)) الحجر:47.
***
لا تنس العلاج الدائم:
في زيادة التفكر،
وفي الصلاة والانتباه فيها،
وفي الدعاء بالتوفيق لهذا،
وفي تذكر توجيهات النبي (ص) ((صِلْ من قطعك وأعطِ من
منعك واعفُ عمن ظلمك)) فهو (ص) لا يريد لك إلا الخير وحسن العاقبة.
عظّم "الخالق" في نفسك، ولن يقف شيء –
داخلها – في وجهه عز وجل؛
ولا قوة إلا بالله.
(يتبع)