عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
5 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور قبل ثلاثة أيام،
قال (عليه السلام):
(( إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي
الذَّاكِرِينَ ))
***
المعنى الإجمالي:
عندما يخرج في دعوة أو اجتماع من أي نوع، أو نزهة مع
الأصدقاء، وصاروا منهمكين في القيل والقال والتوافه من الأمور، وما لا يجدي، وأسوأ
منه الكذب والغيبة وغيرها، تجده " في الذاكرين" – فما المقصود؟
- إن
مجاملتك الناس في المناسبات مما يحسن منك، لأن المشاركة إعلان منك على أهمية الشخص
الآخر بحيث تشاركه الفرح أو الحزن أو الاجتماع مع الأحباب، وأنت تفكر أنك تقوم
بواجبه، أو تتصرف معه كما تحب أن يتصرف معك ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه))، فهذا يعني أنك غير غافل عن حقوق الإخوان والأصدقاء، فليس فيه غفلة عن
الله؛ ولكن الكلام عن الحال أثناء تلك المناسبات؛
- هناك ذكر
التسبيحات الأربع وغيرهن، فإن قولك "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر" وغيرها مما ورد من صيغ الأذكار، هي الذكر المباشر لله، شريطة أن
يكون ذلك بالوعي لما تقول، وليس اللعب بالمسبحة دون تفكر؛ ولكن ما لا يدرك كله لا
يترك كله، فتحاول وسعك أن تحمد الله وأنت تشعر بالشكر على نعمه، وتهلله وأنت واع
أنك تقول أعظم كلمة (ورد عن النبي (ص) ((ما قلت وما قال القائلون قبلي مثل لا إله
إلا الله)))، وهكذا؛
- وهناك
الذكر الأعظم، وهو عدم الغفلة عن الله في الطاعات والمعاصي، كما أوضح الإمام
الصادق (ع) ((وذكر الله في كل موطن. أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك؛ ولكن ذكر الله في كل موطن إذا
هجمت على طاعة أو معصية))؛ عدم الغفلة عن مسؤوليتك تجاه المولى عز وجل في الطاعات والمعاصي – هل
أفعل؟ كيف أفعل؟ هل أنتظر؟ هل أسأل؟...
***
كيف
نستطيع الاتصاف بذلك؟
مرة أخرى،
لو سرنا في طريق الوصول إلى حالة
((عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ))
فإننا سنجد الانتباه دائمياً أو شبه دائمي إلى حقوق
"الخالق"، كعبادة الصلاة في أركانها وتفاصيلها، وتلك المتعلقة بعباده،
كالبيع والشراء في عقودها وشروطها وأخلاقياتها؛
حتى في زحمة الحياة، مع الغافلين في البيت والعمل
والسوق وسائر المواقع التي نكون فيها.
هذا الانتباه، عدم الغفلة، لذيذ الطعم في داخل النفس،
وأنت حاضر في بدنك مع الغافلين وغائب في نفسك إلى حيث ذكر الله.
تتحدث إلى الناس وأنت ذاكر لحقوقهم عليك من حسن الخلق
والصدق والود وقضاء الحاجات، وحتى الصبر وإيثارهم على نفسك...
كما وأنت فيهم صامت لا تتكلم، أو تتابع ما يدور،
منتبه إلى التعفف عما يبعدك عن الله من الكلام – إنشاء أو اشتراكاً أو تأييداً –
في الباطل...
***
علاجات عملية مؤقتة
الاعتياد على الفعل، والرتابة في أدائه، يساعدان على
الغفلة،
وهذا نجده في الغفلة في الصلاة.
البعض يعالجها بقراءة سور مختلفة كي يتأكد مما يقول،
البعض يقوم بكتابة ورقة مكتوب عليها مثلاً "ركّز
فربما هذه آخر صلاة"،
أو يقوم بحركات بدنية غايتها طرد المشاغل الذهنية –
مثلاً يطرد بيديه ما أمامه وكأنه يطرد ذباباً بينما يفكر أنه يطرد الأفكار داخل
رأسه!
مثل هذا يمكن اعتماده عندما يكون المرء في الناس:
خصص مسبحة لهذا، سمّها "عدو الغفلة"،
تأخذها معك في اللقاءات التي تعلم أن فيها من التهريج والوقت الضائع الكثير (ما
سماها الإمام (ع) "مجالس البطّالين")؛
أكتب ورقة في السيارة، برمز تعلم معناه، ضعها في جيبك
عندما تنزل إلى المكان؛
إلبس الخاتم في أصبع آخر، أو عكس الاتجاه، عسى أن
تتساءل لماذا، فتتذكر؛
عندما ارتفع الكلام بالغيبة مثلاً، أنقذ الجمع
بدعوتهم إلى حكاية حصلت لك، أو لطيفة، أو سؤال توجهه إلى شخص، فتعينهم ونفسك؛
وما أجمل أن يتعاون صديقان
واعيان في هذا؛
أي شيء يتفتق عليه ذهنك مما يعينك الله عليه، وسيعينك
طالما قد طغت "عظمته" على داخلك.
***
لكن لا تنس العلاج الدائم:
في زيادة التفكر،
وفي الصلاة والانتباه فيها،
وفي سائر الأحوال،
وربما في مقدمة هذا "الدعاء" إلى الله
بالعون، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
عظّم "الخالق" في نفسك، ولن يقف شيء –
داخلها – في وجهه عز وجل؛
ولا قوة إلا بالله.
(يتبع)