بحوث الأمة المسلمة في دعاء إبراهيم وإسماعيل (ع)
الحلقة 21 - الأمة المسلمة - آية ((وكونوا مع الصادقين))
فصل آخر
من الآيات غير المشهورة التي تتعلق بالأمة المسلمة من ذرية ابراهيم واسماعيل(ع) هي
الآية المباركة:
((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) التوبة:119.
النظر في
أقسام الآية المباركة
القسم
الأول / نداء ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)) إلى المسلمين جميعاً.
القسم الثاني
/ ثم يقدم الأمر بالكون مع الصادقين بالحث على
التقوى، ما يعني إشارة إلى أن ما سيأمر به فيه شيء من الصعوبة، سواء الصعوبة
في الخارج، الواقع الحياتي الدنيوي، أو صعوبة في الداخل، الجانب النفسي الذي لا
يقبل ذلك.
ونحن نجد
هذا في القرآن كثيراً كما في آية تحكيم الرسول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ))
النساء:65، إذ كان يمكن أن يقول يجب عليهم أن يحكموك ثم لا
يجدوا، ولكنه قال: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)) ليجعلك تنتبه، أي أكون من
المؤمنين؟ لماذا؟ كيف؟ ما هي الشروط؟ هكذا. أو يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))،
فإنه عندما قال ((اتَّقُوا اللهَ)) أنت تنظر ماذا؟
وبعدها ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ))، فيكون هذا الأمر ((وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ)) لام الأمر أقوى وأشد وقعاً مما لو لم يقدمه بـ ((اتَّقُوا اللهَ)) أو ما يشببها من التعبير.
القسم الثالث
/ثم يأمر ((وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ)).
هنا نسأل: هل أن الصادقين جماعة محددة؟ أم هي أي صادق؟
يمكن
قبول الثاني لأن الصدق من أعظم الأعمال، فالإنسان الذي يتحرّى الصدق يسير في إطار
الصراط المستقيم عموماً،بغض النظر عن الجنبات الأخرى؛ وبالتالي فإن الندب إلى أنك
تكون معهم منطقي ومفهوم ومعقول.
أو هو
الأول؟ أن "الصادقين" هنا هم جماعة محددة، وهنا
يكون الخطاب منطقي مباشرة؛ كيف؟
هو يقول
في الخطاب ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ))
أيها المسلمون كونوا مع هذه الجماعة، إذا قلنا أنها جماعة محددة، مع هذه الجماعة
الصادقة أبداً، ((كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))، لم يقل كونوا مع الصادقين في حالة
كذا، كونوا مع الصادقين إن لم يفعلوا كذا –
((مَعَ الصَّادِقِينَ)) فقط.
إذاً، إذا كانت جماعة محددة فهي جماعة لا تخرج عن إطار الصدق
مطلقاً؛ وبالتالي هو يقول:
"أيها
المسلمون كونوا مع الجماعة الصادقة أبداً، فإن وجدتم أنفسكم لا تقبل هذا فإنه بعيد
عن تقوى الله، فقوموا بتفعيل التقوى من أجل أن تكونوا مع الصادقين"... هكذا
نفهم الآية.
تزكية
الرسول لهم ((وَيُزَكِّيهِم)) بالبيان الرسولي
هذا
أيضاً كما قلنا في حلقات أخرى أنه في سائر حياته الشريفة مدة الدعوة كان ينوّه بهم
وبفضلهم وبمنزلتهم عند الله وعند رسوله(ص) وبموقعيتهم في الدين، الموقعية التي هي
موقعية وجوب الاتباع، فهنا ((كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) إذا كنت معهم فإن تحقُّق الاتباع
سيكون من تحصيل الحاصل، لأنك ستكون مع جماعة أنت ستنهل منهم الذي يقولونه وستقبله
منهم فيتحقق الانقياد.
وقد
ذكروا وجوهاً في التفسير، الوجوه الباطلة أو الضعيفة حسبما سنبين أدناه؛ ولكن إضافة
إلى هذا ذكروا الوجه الذي يقولون فيه كونوا مع علي
بن أبي طالب(ع)، أيضاً ذكروا هذا الوجه ذكره بعض المفسرين كالثعلبي والآلوسي، وهذا
الوجه كونوا مع علي بن أبي طالب(ع) رووه عن أبي جعفر الباقر(ع)، على قلة ما
يروون عن أئمة أهل البيت(ع) رووه عنه، والإمام الباقر(ع) طبعاً عندنا وعند
المخالفين لا يكذب، وأنه لا يتحدث إلا عن آبائه الطاهرين واحداً بعد واحد(ع) إلى
رسول الله(ص).
ثم إن علياً(ع) وصف عترة النبي(ص)
التي هي الأمة الذرية المسلمة من ذرية ابراهيم واسماعيل(ع) وصفهم وصفاً بألصق ما يكون إلى الصدق. فقد قال في
خطبة شهيرة:
((فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَالْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَالْآيَاتُ وَاضِحَةٌ
وَالْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ
وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ)) ثم يعدّد لهم ثلاث صفات:
((وَهُمْ
أَزِمَّةُ الْحَقِّ))
أي أن بيدهم زمام الحق يحركونه كيفما داروا، كما قال النبي(ص): ((علي
مع الحق، والحق مع علي))..
((وَأَعْلَامُ
الدِّين))
أنت تريد الدين، فحتى من بعيد ترى الدين معهم، أو أنك تنظر أين هو علم الدين؟ كما
يفعلون في الحج وغيره عندما يكون ناس ينظرون إلى الرايات والأعلام، وهذه تستخدم
منذ القدم لكي تعلم أين جماعتك فتنحاز إليها..
((وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ)) يعني كأن الصدق صار محتاجاً إليهم،
أو كأنهم الصدق إذا كان له لسان يتحدث به فهم هؤلاء الصفوة (ع) هم الصدق المطلق
إذاً.
فإذاً في الآية المباركة قيد البحث، فإن ((الصَّادِقِينَ))، إما
هم (ع)، أو على أقل تقدير إذا كانت تقول كونوا مع أي صادق، أنهم (ع) فهم المصداق
الأعلى لذلك. وبالتالي، إذا أردت أن تفعّل الآية فمن غير المعقول أن تكون مع
صادقين غيرهم ولا تكون مع الذين هم الأعلى في هذا، فهم ألسنة الصدق.
وجوه
الاعتراضات على تفسيرنا
أوردوا
وجوهاً في التفسير غير هذا، تمثل الاعتراضات على هذا. مما ذكروه:
-أن الصادقين
هم الأنبياء، أو
-أنهم
محمد(ص) وأصحابه، أو
-أنهم
المهاجرون الصادقون، أو
-أنهم أبو
بكر وعمر حصراً، أو
-أنهم
أبو بكر وعمر وأصحابهما.
وهناك روايات
من سنخها، كلها وجوه من كلام الرواة وصولاً إلى التابعين كحد أقصى أو تابعي
التابعين، بعضهم سعيد بن جبير مع رواية تصل إلى أبي بكر نفسه يقول أن المهاجرين هم
الصادقون. يعني الرواة وهو صحابي طبعاً، والباقي من التابعين، هي ليست عن رسول
الله(ص).
جميع الوجوه باطلة! لماذا؟
-الأنبياء
نعم هم الصادقون أبداً، لكن الآية موجهة إلى المسلمين بعد نزول القرآن فما معنى أن
يكونوا مع الأنبياء(ع) الذين مضوا؟ ما معنى ذلك؟
-الوجه
الثاني أنه النبي(ص) وأصحابه؛ ولكن الصحابة ليسوا كلهم صادقين، بعضهم كذّب بعضاً،
فكيف تجمع النبي(ص) معهم في إطار غير مضبوط؟ النبي(ص) هو الصادق أبداً تجمعه مع الآخرين
الذين هم يصدقون ويكذبون؟!
-الوجه
الثالث أن أبا بكر وعمر على تمام الصدق. وهذا باطل، لأنهما لم يكونا كذلك، ويكفي
دليل (ونستطيع أن نأتي بغيره)، أن أبا بكر وعمر اختلفا في حضرة رسول الله(ص) وعلت
أصواتهما أصلاً، وهذا يدل على أنهما ليسا على ذلك الطريق الذي سميناهم ألسنة الصدق
وبالتالي الذين لا يختلفون. ولكن عندنا ما هو بالنسبة إلينا الدليل على كذبهما
وبالنسبة للمخالفين هو محيّر لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إزاءه، وهو أن
فاطمة الزهراء (ع) هي سيدة نساء العالمين(ع) كذّبت أبا بكر، وضمناً كذّبت عمر لأنه
الوحيد الذي أيّده عندما ادّعى أن النبي(ص) قال أن الأنبياء لا يورّثون وبالتالي
منع فاطمة(ع) من ميراثها من أبيها (ص)، وقد كذّبته فاطمة(ع)، وبما أننا نصدق فاطمة(ع)
فيما تقول مطلقاً فقد كذب إذاً، فلا يمكن عندئذ أن يكون مصداقاً لصفة الصادقين المطلقة
في الآية.
أما
المخالفون فلهم أن يتخيّروا من يصدقون.. فاطمة؟ أم يصدقون أبا بكر وعمر؟!
هذا طبعاً عن الصدق القولي، ((كُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ))، ولكن الصدق أبداً هو في
القول والفعل، في الموقف. فإذا أردنا النظر في مواقف الرجلين نجد أن بعضها لا يتناغم
ولا ينسجم مع الصدق. الصدق يعني أنني بايعت رسول الله(ص) على أن لا أهرب من معركة،
أن لا أفرّ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ))،
وقد ولّيا الأدبار في أُحد، وولّيا الأدبار في حُنين، وعليه، فلا يمكن أن يكونا صادقين
صدقاً مطلقاً. هذا غير صحيح، أي حتى لو كان كلٌّ
من أبي بكر وعمر صادقاً في 90% من الأقوال والأفعال فإن 10% لا تنطبق عليه، فإن
انطبقت فيكون هذا مصداق أضعف من مصداق آل محمد(ص).
-كذا الأمر، بل أوسع، مع وجه المهاجرين، المهاجرون
كلهم كما قال أبو بكر؟ كيف يكون ذلك وهم فيهم
الكاذب والصادق وفيهم حتى من فعل المحرمات التي ثبتت عليه، بعضهم من البدريين
حتى، وطبعاً وبعضهم قاتل بعضاً، فكيف يكون هذا موقفه موقف الصدق؟
هذه
الآية وآيات الأمة المسلمة
كما قلنا
مراراً، أن المستوى الأعلى في الإسلام وصلته هذه الأمة الذرية المسلمة من إبراهيم
وإسماعيل(ع)، وصلته من قبل أن يخلقوا، وصلته من دعاء إبراهيم وإسماعيل(ع)، حيث طلبا
(ع) أن تكون هذه الذرية بالمستوى الأعلى من الإسلام.
(نكرر)
كيف نعلم أنها بالمستوى الأعلى من الإسلام؟ نعلمه لأن ابراهيم واسماعيل(ع)
طلباه أولاً لاسيما ابراهيم(ع) وهو من هو في الإسلام في الحنيفية العليا، وإذا بعد
هذا كله وقد صار شيخاً كبيراً يقف ليقول مع ابنه(ع): ((رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ))، فلا
بد وأن تكون ((مُسْلِمَيْن)) أي في تمام
الإسلام والانقياد، نحن نريد هذه الدرجة؛ وبعد ذلك يقولان دعاءً: ((وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ))،
فالإسلام في الذرية المسلمة هذا من نفس مستوى الإسلام الذي طلباه في أول دعائهما
(ع).
فإذاً، هذا أعلى مستوى من الإسلام، فكيف لا يكون معه الصدق
التام؟ فلذلك عندما يقول: ((اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) فهو
يعني أنه تعالى أمر أن نكون مع الذين وصلوا إلى المستوى الأعلى من الانقياد لله
تعالى والتسليم له بحيث لا يمكن أن يخرج منهم شيء مخالف وبالتالي لا يخرج منهم شيء
إلا إذا كان صادقاً قولاً أو فعلاً.