بحوث الأمة المسلمة في دعاء إبراهيم وإسماعيل (ع)
الحلقة ح18 / آية خير أمة أخرجت للناس
رابط يوتيوب: https://youtu.be/rf4jbsCQwSQ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله ..
الآية
التي تستخدم كلمة أمّة آية شهيرة جداً، آية صفة "الخيرية" كما يسمونها
أيضاً:
((كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)) آل عمران:110.
تحليل الآية
في تحليل
سريع لنص الآية، هناك:
1/ ((كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))، ثم
2/صفات
ثلاث ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)) ، ((وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) ، ((وَتُؤْمِنُونَ
بِاللهِ)).
مما
يناسب الإلفات إلى أن مفردة "الأُمّة" تأتي في
القرآن العظيم بمعاني مختلفة في حجمها –
-فهناك معنى
"الفرد
الواحد"
((إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)) النحل:120؛
إن إبراهيم(ع) كان وحده أمة، في إشارة إلى أن الفرد بموقفه هو يمكن أن يكون أعظم
أثراً من الكثرة من الجماعة الكبيرة، إذ ربما كانت الجماعة كبيرة لكنها عند الله
تعالى ضعيفة، وفرد واحد أعظم منهم جميعاً، بل ربما يكون الفرد الواحد على الصراط
المستقيم والجماعة في خط الضلال.
-ثم تأتي
مفردة "الأُمّة" بمعنى "الجماعة
من الناس" في قصة
موسى(ع) ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً
مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ
مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا
شَيْخٌ كَبِيرٌ)) القصص:23، فهناك وجد "أمة
يسقون"، أي لما
ورد ماء مدين، قوم شعيب(ع)، ما كانوا كلهم يسقون، جماعة من عدة أفراد أو
أكثر بما لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين شخصاً مثلاً، واقفون يسقون عند مكان سحب
الماء من البئر.
- ومنها
أيضاً ما يؤكد أنها "جماعة
في الأمة الكبيرة"
((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) الأعراف:159،
جماعة محدودة من ضمن قوم موسى(ع)، أو أمة ضمن أمة موسى(ع)، فرّق بين الأمة التي
تتبع موسى(ع) أو التي هي مرتبطة بموسى(ع) سواء كانت بني إسرائيل أو الذين دخلوا في
دين موسى(ع) – سمّاها القوم،
ومن هؤلاء القوم هناك جماعة فقط هم الذين ((يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ)) (أي أن الحقّ يهدون إليه ويهدون به، وبه يحكمون بالعدل)، هذه جماعة
واحدة فقط يعني مفروغ منه أن لا تكون الأمة الكبرى القوم يفعلون هذا.
إذاً الأمة
تأتي بمعنى الفرد، كما تأتي بمعنى الجماعة وهو قول إبراهيم وإسماعيل(ع) الذي
أثبتناه في أساس البحث ((ومِنْ ذُرِّيَتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك)) كون هذه
الجماعة من ذريتهما(ع) فلا يمكن أن تكون الأمة الإسلامية كلها التي دخلت في الدين
الإسلامي، في رسالة النبي(ص). وبالتالي الكلام من رسول الله(ص)، في نفس
هذا الدعاء الإبراهيمي الاسماعيلي، في تزكية هذه الأمة ((يَتلُو عَليهِم آياتِكَ
ويُزكِّيهِم)) بأشكال مختلفة، أن هناك جماعة هي التي تتصف بهذه المواصفات العليا.
بدائل تفسير
"الأُمّة" في الآية المباركة
هناك
بدائل وضعوها مقابل تفسيرنا أن "الأمة" في هذه الآية المباركة ((كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)) هي الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم
وإسماعيل(ع) التي دعوا الله طلباً لها، و جميعها ضعيفة في المقام، نذكرها واحدة
واحدة. ما ينبغي الإلفات إليه أن هذه البدائل تكاد تكون جميعها غير معروفة للناس.
نذكر أولاً
القول الشائع السائد، ثم نذكر البدائل الأخرى.
* القول الشائع السائد لهذه الآية، أن "الأمّة"
هي الأمة الإسلامية، أي جميع من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً
رسول الله هو من ضمن هذه الأمة، ومجموع هؤلاء هي هذه الأمة التي هي ((خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))؛ هذا هو الفهم السائد، وهو أول البدائل. وهو قول
باطل، يتضح بطلانه مما سيأتي في الأقوال التالية (خلاصته أنه لا يمكن أن يكون جميع
المسلمين يتصفون بهذه الصفات الثلاث).
فإذا
جئنا إلى البدائل الأخرى – أي التي
هي ليست مشهورة بين الناس – نجدها على
سبعة أقوال:
* القول الأول / أن خير أمة أخرجت للناس هم المهاجرون
من الصحابة، فقط هم المهاجرون. طبعاً هذا باطل لأنهم ليسوا كلهم يتصفون بهذه
المواصفات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقد وجدنا أن من الصحابة من فعل عكس
ذلك بنص القرآن، وبعضهم سقط في النفاق كما قال القرآن وكما دلت السيرة.
* القول الثاني / هم ليس فقط المهاجرين، بل هم الصحابة عموماً، قالوا الصحابة ومن صنع مثل صنيعهم.
هذا القول فيه أمران:
1- أنه
يستند إلى نظرية "عدالة جميع الصحابة" بحيث أنه مهما صدر من أي صحابي من
فعل مخالف للدين فإنه يبقى ثقة عدلاً، حتى ولو خاض في الفتن والدماء. هذا باطل لأنه يخالف واضحات الآيات القرآنية والكثير
من الأحاديث النبوية الصحيحة كأحاديث الحوض.
2- أنه يعضد القول أن الأمة هنا هي جماعة وليس كل من
يشهد الشهادتين، فلا يجوز الاعتراض عندما نقول أن هذه
الجماعة محددة بشكل أكثر تخصيصاً.
* القول الثالث / أنهم الصحابة وفي إضافة لهذا أنهم
الرواة يعني تعبير ذلك أنهم الرواة الدعاة
الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. وهذا القول باطل، أولاً لما تقدم أن في الصحابة
مَن أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، ولا نريد أن نأتي بأسماء ولكن السيرة معلومة.
ويكفي أن نقول أن الصحابة عندما وقف بعضهم إزاء
بعضهم يتقاتلون، من المستحيل أن يكونوا في هذه الحالة هم في حالة بالأمر عن نفس
المعروف ونهي عن نفس المنكر، بل كانوا على العكس تماماً. إذاً، لا يمكن أن
نطبق هذا على ((خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)).
أما إذا كان الشرط الآخر وهو أنه أمر الله بطاعتهم، فهذا ينطبق
فقط على الأمة الذرية المسلمة من آل محمد(ص)
وليس غيرهم، لأنهم هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم كما جاء في نصوص
الآيات من موقعيتهم ومن تزكية النبي(ص) لهم في دعاء إبراهيم وإسماعيل(ع) كونهم في
الدرجة العليا من الإسلام وكما في البيان الرسولي من أحاديثه(ص)
الكثيرة المتنوعة في ذلك في قوله وفعله.
* القول الرابع / قالوا أن هؤلاء هم المسلمون كلهم، هم المسلمون خير أمة، لماذا؟ لأنها أكثر الأمم استجابة للإسلام. وهذا أيضاً باطل، لأن هذه الصفات يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله لو سلمنا أنهم كلهم يؤمنون بالله، نخرج منهم
المنافقين الذين على النفاق التام، فليسوا كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وإلا لما قال رسول الله(ص) لنا ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر
أو ليسلّطنّ الله عليكم شراراكم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم)) (وقد ورد في روايات
متنوعة في كتب الحديث المعتبرة)..
* القول الخامس / مشابه له، وهو أنهم المسلمون لأنها آخر الأمم وأكرمها على الله.
هذا القول ممكن، على أساس أن الأمة بشكل عام
هي الأمة التي تتصف بالتوحيد الخالص مقارنة مع الأمم الأخرى، إلا أن أكثرية الأمة لا تتحقق بهم هذه الشروط الثلاثة، فهناك منهم من
يتشهد الشهادة ظاهراً بينما في دواخلهم لا يؤمنون بالله أصلاً، فكيف إذا جئنا
بقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فإن الكثير الكثير يخرجون منها بل الأكثر.
* القول السادس / عن عكرمة، قال نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأُبيّ بن
كعب ومعاذ بن جبل، أي وضعها في أربعة فقط. هذا
القول باطل لأنه يعني أن هؤلاء الأربعة فقط هم خير أمة، فلا تنطبق هذه الصفات
الثلاث ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)) إلا عليهم.
البحث
ليس لمعرفة أسباب هذه الأقوال، ولكن أقول: الله وحده يعلم لماذا قال عكرمة ذلك،
فقد كان الرجل منحرفاً عن علي(ع)، كان يرى رأي الخوارج كما روى المؤرخون. على أننا
نعلم أن اثنين من هؤلاء الأربعة كانا منحرفين عن علي(ع)، سالم بن أبي
حذيفة ومعاذ بن جبل (والمقام لا يتسع لبيان ذلك)؛ وثالث الأربعة ابن مسعود فيه قولان:
البعض يقول أنه كان منحرفاً عن علي(ع)، والبعض الآخر يقول كان معه ولكنه لم يجاهر؛
فقط أُبيّ بن كعب (رض) كان من أنصار علي(ع).
فهذه
مجموعة مجموعة غير متجانسة بالموقف أصلاً، فكيف جمعها عكرمة هذه الجمعة بأنها خير
أمة أخرجت للناس؟! ولكن من يقبل بهذا بحيث يضعونه في التفاسير ؟
على أن من يقبل التشخيص بأربعة رجال عليه أن يقبل عندما نشخّص
ونقول أنهم أئمة الهدى(ع) من آل محمد، أو الأئمة(ع)
والزهراء(ع)، أي المعصومون من أهل بيت محمد(ص)، العترة الهادية التي
قارنها بالكتاب؛ من يقبل أربعة ممن (أ) لم يقل أحد بكمال
أفعالهم تماماً (ب) عدم تجانس مواقفهم في الأحداث (ت) ليس لهم هذه المنزلة حتى عند
المسلمين عموماً مقارنة مع منزلة أهل البيت(ع)، عليه أن يقبل هذا من
عندنا...
مع الأسف،
لم نجد أنهم أنكروا هذا على عكرمة، بخلاف الشيء عندما يخص علياً (ع)، عندها يقومون
ولا يقعدون!
* القول السابع / والأخير أن المعنى أنتم خير أمة إذا كنتم بهذه الشروط. هذا يدعم القول بأن في
الأمة ذرية مسلمة أنه أنتم ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) إن
كنتم ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ))
– بعبارة أخرى، يدعم القول أن
هؤلاء الأمة يجب أن تتصف بهذه الصفات.
إلا أن هذا الكلام لا يدعم النص، لأن النص يقول ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ)) ، كيف يصبح المعنى أنتم خير أمة إن تحققت فيكم هذه الشروط؟
لا يصح أبداً، فلا يوجد تجانس بين النص القرآني والمعنى الذي ذهبوا إليه.
فـ "كنتم" تشير إلى الماضي، وهذا الماضي
إما يكون "كنتم
في علم الله تعالى"،
وهذا مقبول لا نستطيع أن نرده، أو يكون "كنتم
هذه الجماعة أخرجت للناس، الخيرية فيها أخرجت في زمان ماض
وهذا هو انطلاقتها سابقة"،
ولكن انطلاقتها القرآنية واضحة، (لأنه سنأتي إلى آيات أخرى تدعم القول أن ذلك الاصطفاء للأمة الخيرية كان من قبل الخلق)، فانطلاقتها
القرآنية في دعاء إبراهيم وإسماعيل(ع).
إذاً، يمكن القول كنتم أنتم الخيرية أخرجت للناس في زمان ماضٍ،
أو في علم الله، الاثنتان تتوافق، والاثنتان يمكن تطبيقهما على الذرية الأمة
المسلمة من آل محمد(ص)، بشروط هذه الخيرية: الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والإيمان بالله.
وينبغي
القول أن هذه الشروط الثلاثة يمكن تطبيقها على غير
الذرية من آل محمد(ص)، فإن هناك الكثير من المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ويؤمنون بالله إيماناً تاماً، ولكن هذا
الكلام هنا عن أمة جماعة أخرجت للناس في وقت ماض، هذا
الكلام عن الذين يتصفون بهذه الصفات بالمستوى الأعلى، فكما أن كلمة مسلمة في دعاء إبراهيم وإسماعيل(ع) هي ذاتها كلمة مسلمة في أمة
مسلمة تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، على ما فيها من نقص، ولكن في الدعاء
المقصود في مصطلح تلك الآية هو الأعلى في الإسلام.
كذلك الخيرية
هنا هي الأعلى لأن الأعلى في الأمر بالمعروف، الأعلى في النهي عن المنكر، الأعلى
في الإيمان بالله. ماذا يعني الأعلى؟ يعني:
أ-أن
معرفتهم بمواضع المعروف ومواضع المنكر كاملة
ب-أنهم
يقومون بالأمر والنهي بما وسعهم ذلك ولا يقصرون
ت- أنهم
يقومون بالأمر والنهي بالطريقة الموزونة الصحيحة طريقة الحكمة ((ويعلمهم الكتاب
والحكمة))، هذه الحكمة وضع الشيء في موضعه، يكون الأمر بالمعروف متى؟ أين؟ كيف؟ مع
من؟ كذلك النهي عن المنكر.
ث-
والصفة الثالثة – الإيمان
بالله – أنهم وصلوا إلى الدرجة
العليا، درجة الاطمئنان ((ليطمئنّ قلبي)).
فالأقوال الأخرى أنهم الصحابة أو المهاجرون أو أنهم الأمة
الإسلامية كلها إنما هي مرتبطة بنفس الفهم الباطل أنها هي الشاهدة على الناس،
بينما هي الذرية الابراهيمية-الاسماعيلية التي وصلت إلى القمة،
وقلنا أن هذه الأمة لا يمكن أن يطبق عليها هذا كله أنها أخرجت للناس لإقامة الشهادة على الناس بأنها تقوم وتتصف على هذا المستوى
الأعلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فتكون شاهدة على الناس.
فالأمة التي تتصف بهذه الخيرية قد أخرجت للناس منار هدى ثم تشهد
على الناس ماذا فعلوا إزاء ذلك، كيف كانت ردة فعلهم لما قامت به
هذه الأمة المصطفاة لهداية الناس إلى الله سبحانه وتعالى. فهذا فقط هذا الفهم هو الوحيد الذي يعطي هذا المعنى أنه ((كُنْتُمْ)) ، ((خَيْرَ))
، ((أُخْرِجَتْ)) ، وبهذه الصفات ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ))، ما يتوافق في مفردة "الأمة" بما
هو موجود في آيات أخرى، إنها أمة تعني الجماعة وليس الأمة الكاملة، قوم نبي من
الأنبياء(ع).