أنا مدينة العلم 2-4: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
((إِنـــَّما بُعـِثـــْتُ لأُتـــَمّمَ مَكارِمَ الأَخلاق)) النبي محمد(ص)
حديث شريف شهير يعرفه الكثير من المسلمين، ويردده العلماء والخطباء والكتاب وكل من يكتب في الجوانب الدينية أو الاجتماعية من المسلمين (ولعل هذا من أسباب عدم الاستفادة منه لأنه صار كلمة اعتادتها الأسماع ولم تدخل إلى النفوس).
ولقصور في إمكانيات التعرف على آفاق كلام النبي(ص)، فإني لا أستطيع التأكد من أن مراده(ص):
هل هو الحصر التام الذي تدل عليه كلمة "إنَّما" التي هي من أقوى أدوات الحصر في العربية، ما يعطي المعنى أن بعثته الشريفة متعلقة بالجانب الأخلاقي حصراً؛
أو هو المبالغة في التنبيه إلى أهمية الجانب الأخلاقي في بعثته(ص).
ولكن من قال أن الجانب الأخلاقي لا يتعلق بجميع جوانب الدين الذي جاء به(ص)؟
إذا كان الدين هو: عقيدة، وشريعة، وأخلاقيات...
فإن العقيدة تضبط فكر الإنسان في الله، من حيث هو الإله أولاً، ثم الخالق والرازق والمهيمن والرحمن وغيرها من صفاته ثانياً، ومن حيث هو الحكم العدل في الدنيا والآخرة ثالثاً، كما تضبط فكره بخصوص من يؤدي عن الله تعالى من الأنبياء(ع) وخلفائهم الأوصياء(ع) – وهذه كلها تدخل في التخلّق مع الله ومع خلقه المصطفين الأخيار(ع)...
والشريعة هي التعامل مع باقي الخلق، من إنسان وحيوان ونبات وجماد، والأخلاق في صلب جميع ذلك – وإن كان الناس يغفلون عن هذه الحقيقة في معظم الأحيان ومعظم الأحوال، فلا البائع يتعامل بخلق مع المشتري ولا الشريك مع شريكه ولا الزوج مع زوجته ولا صاحب الأرض مع فلاحيه، فإن فعلوا حيناً غفلوا حيناً، أو جنحوا إلى سوء الخلق عامدين، وإن فعلوا في الرخاء فشلوا في الشدة...
ولعل في عدم التأكيد – من جانب الفقهاء – على الجانب الأخلاقي في الأحكام الشرعية بالخصوص هو الذي أدى إلى تحول العبادات إلى عادات، يقوم بها الإنسان بشكل ميكانيكي ثم ما أن يخرج منها إلا ويكمل مسيرته الخالية من الأخلاق الكريمة أو التي تخلط محاسن الأخلاق ومساوئها.
وأما الأخلاقيات فهي التي وردت في الحض على محاسنها والتحذير من مساوئها الآيات القرآنية الكثيرة والأحاديث الشريفة التي لا تحصى، حتى روي من حديث الإمام جعفر الصادق(ع) الحديث الملفت: ((تَخلَّقوا بأَخلاقِ الله))، أي ليكن كل منكم رؤوفاً رحيماً كريماً حليماً صبوراً ودوداً إلى غيرها من الصفات العليا للمولى عز وجل.
إذاً: سواء كان حديث النبي(ص) ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) يتحدث عن حصر بعثته في الجانب الأخلاقي بحيث أن الفشل فيه يعد فشلاً في الالتزام بالدين، أو هو المبالغة في التأكيد على أهمية الجانب الأخلاقي، فإن الالتفات الكامل إلى هذا الأمر بالتأسي بخلقه(ص) والذي لم يتوقف سقف الأسوة كما حددها القرآن بأقل منه ﴿لَقَد كانَ لَكُم في رَسَولِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾ الأحزاب:21، هو الذي يثبت الأقدام على طريق الاتباع الحقيقي الذي من شأنه تحقيق السعادة في الدارين.