الذكر والشكر
تدبر آية
2 من 2
(( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي
وَلاَ تَكْفُرُونِ )) البقرة:152
(1) ((وَاشْكُرُواْ لِي))
وجدت الناس يسألون لماذا قال ((واشكروا
لي)) ولم يقل "أشكروني"،
وأجاب البعض أن هذا التعبير يعني
"أشكروني واشكروا غيري" مثل ((اشكر لي ولوالديك)) بينما الثاني
"أشكروني وحدي"،
وهو مردود لأنه لا يمنع أي منهما من حصر
الشكر أو نشره؛
والبعض قال أن التعبير يعني "أشكروا
لي بالعمل"،
ولكن يمكن "أشكروني بالعمل"
أيضاً؛
والصحيح هو:
-
يمكن أن تكون "أشكروا لأجلي"
وبالتالي فلأجله تعالى نشكر بالعمل وبالقول + نشكر بمساعدة الآخرين بما أنعم الله
به علينا من نعم نشكره عليها
-
كما يمكن – وببساطة – أن "اشكروا
لي" أفصح! ولكن لأننا اعتدنا على "اشكروني" ولا نستخدم
"اشكروا لي" فإن الناس يستغربون فيسألون.
أما ((وَلاَ تَكْفُرُونِ))
معنى "الكفر" يتأتي من المعنى
الأصلي وهو "التغطية.
فـ "الكفر العقائدي" هو
"تغطية وجود الله.
أما "الكفر بالنعمة" فهو
"تغطية وجودها".
وهنا نستطيع القول أن متعلق ((ولا
تكفرون)) هو ((واشكروا لي)) قبلها، فهو إذاً "كفر النعم".
(2)
مراتب الشكر
الشكر مراتب عديدة محل شرحها تدبر آيات الشكر
بشكل مخصص.
ولكن يكفي إلفات النظر هنا إلى ضرورة عدم
الوقوع في حبائل ضعف النفس في الوقت الذي يظن الإنسان أنه يشكر الله على نعمه.
فإن أدنى درجات الشكر هي:
قول "الحمد لله" أو "الشكر
لله" أو مثيلاتهما + شريطة أن يكون قاصداً فعلاً ما يقول؛ لأنه – ومن المؤسف
– أن الكثير من الناس تسأله "كيف الحال؟" يجيبك "الحمد لله"
وربما قالها باكتئاب، فإذا ما ثنيت السؤال "وكيف الحال بعد؟" هنا تنطلق
الشكوى وبشكل لا يمكن أن يكون هذا الإنسان يشكر الله حقاً.
درجة أعلى من الشكر هي:
أن يشعر العبد الشاكر في داخله بالنعمة بشكل
يشعر معه بشيء من الفرح والرضا.
درجة أكثر علواً:
أن يتحدث الإنسان بالنعمة التي يشكر عليها
بشكل ينطبق عليه ((وأما بنعمة ربك فحدث)) – دون تلك المخاوف والوساوس من الحسد وما
إلى ذلك –، عندها كأنه يشيع ثقافة الشكر + يرسخ رضاه بما آتاه الله في نفسه.
درجة أكثر علواً وسمواً:
أن يعطي الإنسان من النعمة المشكورة إلى
الآخرين، عندها يدخل في "الشكر العملي"، فلسان حاله: يا رب، أنعمت علي
وأريد أن أشكر لك بشكل أنت تحبه وهو أن يشاركني غيري هذه النعمة لأنك تحب المحسنين،
أو لأني سمعت نبيك (ص) يقول ((خير الناس من نفع الناس)).
ثم يتصاعد إلى درجة هي:
إعطاء كل ما زاد عن حاجته من تلك النعمة
المشكورة.
ويتصاعد فيصل إلى درجة:
الإيثار، بحيث يعطي الآخرين ((ولو كان بهم
خصاصة))، كي يدخل في عداد ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)).
(3)
كفران النعمة
إذا كفرت النعمة، إما:
- بعدم شكرها مجرد الشكر اللفظي الحقيقي،
أو بحالات الشكر الأعلى،
فإنك كمن "يغطي" هذا العطاء
لأنه ستره بغفلته أو بإهماله الشكر الحقيقي عليه، أي هو "يكفر به"؛
أو
- بعدم إظهارها، خوفاً من
الآخرين من حسد أو مكر أو كيد، فهو "تغطية" أي "كفران" بها.
مؤكد هنا تفاصيل تتعلق بقضية الحسد وأنواع الناس ومسألة الكتمان أين ينبغي،
ولكننا نتحدث هنا عن الحالة الاعتيادية دون عقد.
هذا
"الكفران" أثره السلبي يقع علينا،
لأنه تعالى، وكما وصفه سليمان (ع) ((فمن شكر
فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإني ربي غني كريم))
واللطيف أنه (ع) يعتبر ما آتاه الله من النعم
العظيمة "ابتلاء" فتراه يقول قبلها ((هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم
أكفر)).
الجمع بين "الذكر" و
"الشكر"
(( فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )) البقرة:152
كما أن عائدة الشكر للشاكر فإن نتيجة الكفران
عليه لأنه سيخرج من ((فاذكروني أذكركم)).
كيف؟
أن "تذكر الله" لا يمكن إلا أن
يتضمن "تذكر نعمه"،
أن "تذكر الله" حباً بكماله المطلق
حالة واحدة ولا يوجد غيرها يمكن أن لا تتضمن "تذكر نعمه"،
فسائر حالات "تذكر الله" تتعلق بها
مظاهر نعمه التي لا تحصى – من أساس الخلق وحتى اللحظة التي أنت تتذكر هذه النعم،
فحتى عندما تتذكر، فتشكر، فأنت إنما انطلقت
بالشكر من عوامل ثلاثة:
التوفيق منه تعالى + التعليم من خلال كتابه
ورسله وأوليائه + الآلات التي تشكر بها
وهذا يذكرنا به مولانا الإمام علي بن الحسين
زين العابدين (ع) في دعائه في الشكر، نلتقط منه (الصحيفة السجادية الدعاء 37):
((اللَّهُمَّ
إنَّ أَحَداً لاَ يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً إلاّ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ
إحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْرَاً...
فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ
وَأَعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ...
تَشْكُرُ يَسِيرَ مَا شُكِرْتَهُ وَتُثِيبُ عَلَى قَلِيلِ مَا
تُطَاعُ فِيهِ،
حَتَّى كَأَنَّ شُكْـرَ عِبَادِكَ الَّذِيْ
أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ
ثَوَابَهُمْ وَأَعْظَمْتَ عَنْهُ جَزَاءَهُمْ أَمْرٌ مَلَكُوا اسْتِطَاعَةَ
الامْتِنَاعِ مِنْهُ دُونَكَ، فَكَافَيْتَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ
بِيَدِكَ فَجَازَيْتَهُمْ،
بَـلْ مَلَكْتَ يَا إلهِي أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَنْ
يَمْلِكُوا عِبَادَتَكَ، وَأَعْدَدْتَ ثَوَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفِيضُوا فِي طَاعَتِكَ،
وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الأِفْضَالُ، وَعَادَتَكَ
الإحْسَانُ...
تَشْكُرُ للْمُطِيْعِ مَا أَنْتَ تَوَلَّيْتَهُ
لَهُ...
وَلَوْ كَافَأْتَ الْمُطِيعَ عَلَى مَا أَنْتَ
تَوَلَّيْتَهُ لاوْشَكَ
أَنْ يَفْقِدَ ثَوَابَكَ، وَأَنْ تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَتُكَ،
وَلكِنَّكَ بِكَرَمِكَ جَازَيْتَهُ عَلَى الْمُدَّةِ
الْقَصِيرَةِ الفَانِيَةِ
بِالْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الْخَالِدَةِ...
وَلَـمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الْمُنَاقَشَاتِ فِي الالاتِ
الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إلَى مَغْفِـرَتِكَ،
وَلَـوْ فَعَلْتَ ذلِكَ بِهِ لَذَهَبَ بِجَمِيْعِ مَا كَدَحَ لَهُ
وَجُمْلَةِ مَا سَعَى فِيهِ،
جَزَاءً لِلصُّغْرى مِنْ أَيادِيْكَ وَمِنَنِكَ،
وَلَبقِيَ رَهيناً بَيْنَ
يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ...))
فنردد مع
مولانا السجاد (ع) (مناجاة الشاكرين ملحق الصحيفة السجادية):
((لَكَ
الْحَمْدُ عَلى حُسْنِ بَلاَئِكَ وَسُبُوغِ نَعْمآئِكَ،
حَمْدَاً يُوافِقُ رِضاكَ،
وَيَمْتَرِي الْعَظِيمَ مِنْ
بِرِّكَ وَنَداكَ،
يا عَظِيمُ يا كَرِيمُ،
بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ)).