طول عمره الشريف:
لعل هذا هو أكثر الاعتراضات المثارة حول شخصية الإمام المهدي بن الحسن(ع)، ففيها يسخف المعترضون من عقول الشيعة ويعتبرونها عقولاً قاصرة إذ كيف تتقبل فكرة انتظار شخص لقرون من الزمن، بل بأن هذا الشخص قد لا يظهر لقرون أخرى قادمة. ربما لا نحتاج للرد على هؤلاء سوى أن نقول:
أولاً: بأن الله على كل شيء قدير، فإذا أراد أن يطيل عمر محمد بن الحسن هذه المدة وأكثر منها فإنه يكون بإرادته وحسب.
ثانياً: القرآن يصرّح بأن نوحاً(ع) ظل يدعو قومه ما يقرب من الألف سنة، فأبقاه الله حياً طيلة هذه المدة، وأن المسيح(ع) لم يمت ولم يقتل ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾، فهو إذاً حيّ منذ رفعه قبل ألفي عام.
ثالثاً: يصرح القرآن ببقاء إبليس لعنه الله مدة طويلة جداً وأنه سيبقى إلى يوم الوقت المعلوم، مع أنه الذي تطاول على مقام الربوبية، بل لم يكتف بذلك وإنما أقسم بعزة الله أن يعمل لإغواء البشر لمنعهم عن اتباع طريق الله؛ وكل ذلك بقدرة الله وإرادته.
رابعاً: نعلم جيداً أن الكواكب بقيت في الوجود لمليارات السنين، كما أن الأشجار والبحار والمعادن وكل ما في الأرض تبقى لمئات وآلاف وملايين السنين، وكل ذلك بقدرة الله.
خامساً: يؤمن المعترضون بأن الدجّال عاش منذ زمن رسول الله(ص) وسيبقى حياً إلى وقت نزول المسيح(ع)، وكل ذلك بقدرة الله وإرادته، فلماذا ترى يقبلون بطول عمر الدجال الذي يغوي الناس ولا يقبلون بطول عمر المهدي الذي يهدي الناس؟
لم لا يكون المهدي المنتظر رجلاً يولد في آخر الزمان؟
قلنا بأن المسلمين جميعاً مؤمنون بأن هناك مهدياً سيظهر في آخر الزمان ليحقق العدل في الأرض بتطبيق الشريعة الغرّاء، إلا أنهم مختلفون في هويته، فالشيعة تعتقد أنه محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، في حين يعتقد أهل التسنن (عدا من شذ منهم بموافقة الشيعة أو بنفي فكرة المهدي أصلاً كما ذكرنا أول المقال) أنه رجل يولد في زمان ظهوره.
أما لماذا يجب أن يكون المهدي محمداً بن الحسن فلما يلي:
أولاً: أثبتنا في حلقات سابقة وبما لا يدع مجالاً للشك بأن الأئمة إثنا عشر وأنهم من قريش ومن بني هاشم وأن أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي، وذلك من نصوص خرجت من فم الرسول(ص) وأثبتها أئمة الحديث بدءاً بالبخاري، وطالما كان هؤلاء هم الأئمة وأن آخرهم هو المهدي فيجب على المسلم أن يؤمن بذلك وإن واجه قضايا غير مألوفة كطول عمره أو صغر سنه يوم إمامته.
والسؤال هنا: إذا كان محمد بن الحسن قد مات في حياة أبيه وأن أباه لم يعقب صار عندنا أحد عشر إماماً، فأين الثاني عشر؟
ثانياً: جاء في حديث النبي(ص) ما يلمّح إلى طول عمر المهدي حيث قال(ص): ‹‹لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من ولدي›› أو كما قال. وهذا يعني أنه إن بقي من الدنيا يوم واحد فإن الله يطوّله لهذه الغاية. فلماذا لا يمكن أن يطول الله عمر المهدي لتحقيق هذه الغاية وصولاً إلى ذلك اليوم؟
ثالثاً: وردت أحاديث أخرى عن النبي(ص) وعن الأئمة الآخرين تصرّح بأن الإمام المهدي هو الثاني عشر منهم وهو ابن الحسن العسكري وأنه سيغيب غيبة طويلة حتى يأذن الله به بالظهور.
رابعاً: ذكرنا في حلقات سابقة كيف أن هؤلاء الأئمة قد أتيحت لهم (أو هيّأ الله لهم في الواقع) ظروفاً خاصة كي يتهيأوا لحمل الأمانة العظمى وهي خلافة الرسول الخاتم(ص) وهداية البشر من بعده. فكل واحد منهم كان يتعلم من أبيه في بيته، فكانت كل لحظة من حياته لحظة إعداد لأجل هذه المهمة، فلم يكونوا أناس عبث ولهو ولعب وتضييع وقت ولا حتى راحة، بل تعب متواصل في طريق طاعة الله. وهذا الأمر لم يتهيأ لغيرهم مطلقاً. نفس الشيء يصدق على محمد بن الحسن(ع) حيث ولد ونشأ وعلّم في بيت أبيه الإمام الحادي عشر، وتلقى منه مواريث النبوة التي منها سلاح رسول الله(ص) وخاتمه، والقرآن الذي جمعه علي(ع) وفيه شروح وتفاسير، وكتاب علي(ع) وهو الصحيفة الجامعة التي كتبها علي(ع) بإملاء النبي(ص)، وغيرها من العلوم التي بثها النبي(ص) لعلي(ع) خليفته الأول وأوصلها الأخير لبنيه ثم كل إمام للإمام الذي يليه.
محمد بن الحسن أم محمد بن عبد الله؟
الاعتراض الرابع هو أن الإسم الكامل للمهدي هو محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن، والاستناد هو إلى أحاديث رواها غير الشيعة بأن اسم مهدي آخر الزمان هو محمد واسم أبيه هو عبد الله. لذا فلا يمكن أن يكون المهدي هو ابن الحسن العسكري.
والجواب هو أن هذه الأحاديث التي يستند إليها المعترضون هي أحاديث موضوعة لم يقلها رسول الله(ص)، وإنما اقترف إثم وضعها الوضاعون الذين كانوا يؤلفون الأحاديث لمن يدفع من الملوك والخلفاء الذين كانوا في خضم حرب مستمرة مع أئمة أهل البيت(ع) وشيعتهم. وإلا لماذا يأمر المعتمد العباسي بإرسال الجند إلى دار الإمام العسكري بعد موته للقبض على ولده إن لم يكن يعتقد بأنه هو المهدي المذخور للقضاء على الظالمين أمثاله.
أيضاً، أمره بحبس السيدة نرجس والدة محمد بن الحسن(ع) والتحقيق معها بكل شدة حتى تعترف بمكان وجود ابنها، ألا يدل على ما تذهب إليه الشيعة؟
هذا علاوة على تعارض هذا الحديث مع الحديث الآخر المصرح بأنه محمد بن الحسن(ع). أما إذا جئنا بالأحاديث التي تتحدث عن غيبته الطويلة فإن الاعتراض يصبح لا معنى له أصلاً.
فائدة وجود الإمام في غيبته:
أما عن فائدة وجود الإمام كل هذه المدة، أي فائدته للمسلمين، فقد أجاب هو(ع) عنها بقوله: ‹‹كالشمس إذ يحجبها السحاب››. فكما أن الشمس التي يحجبها السحاب تبقى تمد الأرض بالطاقة، ولكن بشكل أقل، فإن الإمام هو هكذا. أما كيف: فلعل في تدخله في قضايا صغيرة أو كبيرة، أو قضايا حاسمة في تاريخ الأمة، كي ينقذ المسلمين من شرور كثيرة، أن يوجههم إلى ما ينفعهم. وقد يكون في دعائه للأمة الكفاية.
أما عن درجة فائدة هذا الجهد من قبل الإمام(ع) فلا ندري كم هو، والأمة هي المسؤولة عن درجته لأنها هي التي أدارت ظهرها لمن أمر الله باتباعهم بعد نبيه وصفيّه(ص).
مناقشة الاعتراض على ما ذكرنا:
هذا وقد يعترض البعض بأن ما يصدق على الأنبياء والمرسلين لا يصدق على غيرهم، فإن كان عيسى ويحيى(ع) قد آتاهما الله الحكم والنبوة وهما صبيان، وإن كان نوح(ع) والخضر(ع) قد عاشا قروناً من الزمن، فليس لمحمد ابن الحسن العسكري أن يؤتَ الحكمة والعلم وهو طفل صغير وليس له أن يعيش قروناً من الزمان. ولكن القرآن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الله تعالى يجري بعض ما يجريه على أنبيائه ورسله على غيرهم من الناس. من أمثلة ذلك الوحي وهو العلم الذي يؤتاه النبي بشكل الرؤيا أو الإلهام، والذي أجراه الله تعالى لأم موسى(ع) لأن ذلك كان السبيل الوحيد لأن ينجو الكليم(ع) من قرار فرعون بقتل كل المواليد الذكور من بني إسرائيل ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص:7) فلا الأم كان سيطاوعها قلبها بأن تترك ولدها، ولا فرعون كان سيتوقف عن قتله كونه إسرائيلياً، فكان الوحي لأمه.
أيضاً، كلمت الملائكة مريم بنت عمران بقولها: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (آل عمران:42-43). بل جاءها الروح الأمين بهيئة البشر كما يأتي للأنبياء والمرسلين ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(مريم:17)، وحدثها وحدثته ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا . قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا . قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا . قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ (مريم:18-21).
هذا مع أن المهمة التي أعدها الله تعالى للإمام المهدي تفوق مهمة مريم(ع) وأم موسى، فهاتان كانتا وعائين لحمل اثنين من أولي العزم من الرسل، في حين أن مهمة الإمام المهدي هي تطبيق الشريعة المحمدية الخاتمة على أرجاء المعمورة ‹‹يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً››. لهذا ترى وتسمع شيعته يدعون الله بتعجيل ظهوره وتسهيل خروجه وأن يكونوا من جنده وأوليائه في جهاده لتطهير الأرض من الظلم والجور.
كذلك، إن أعملنا العقل في كل شيء ولم نقبل إلا ما نقتنع به شخصياً سنضل عن سواء السبيل لأن الله تعالى أمرنا بكثير من الأوامر وجعل بعضاً منها غير مفهومة لنا ليختبر طاعتنا، وهل الدين إلا الطاعة؟ لو أعملنا العقل لسألنا: لماذا لم يُمت الله نوحاً(ع) بعمر متعارف عليه ثم يبعث في قومه من بعده رسلاً، في حين أنه أبقاه كل هذه المدة بدون سبب واضح لدينا؟
ولماذا لم يمت الله عيسى(ع) أو يتركهم يقتلوه كما فعلوا مع ابن خالته يحيى(ع) ثم يبعثه من بعد الموت في آخر الزمان؟ بل لماذا أولده من غير أب وصار ذلك سبباً لضلال ما لا يحصى من الخلق إذ جعلوه رباً أو ابناً لله؟
إن المسلم الحامل للعقيدة الحقة هو الذي يتناول كل الأمور ونصب عينيه قوله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(الأنبياء:23). فلله حكمة في كل شيء وحاشاه أن يكون أي فعل من أفعاله عبثاً فهو غير محتاج لذلك. كما أنه لم يفعل شيئاً إلا لفائدة خلقه، فإن لم يفهموا الحكمة من وراء بعض أفعاله أو أوامره ونواهيه فما عليهم سوى أن يسلّموا ويقبلوا وإلا وقعوا في الشرك الخفي.
وأخيراً، فإننا لا نتحدث عن وهم أو خيال، بل عن إنسان التقى في غيبته الصغرى مع سفرائه ووكلائه وغيرهم، وفي غيبته الكبرى مع أناس مختلفين حسبما يريه الله المصلحة في ذلك وحسبما يعلم الله من ثباتهم على المبدأ، لأن المهدي(ع) قال لعيسى بن مهدي وهو أحد من رآه: ‹‹لو لم يثبتك الله ما رأيتني››. أما سفراؤه فأربعة امتدت مدة سفارتهم 74 عاماً، ولهم قبور معروفة مزارة في بغداد، وهم عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد بن عثمان العمري وقبره في بغداد يعرف بالخلاني (يقع الآن في شارع الجمهورية وسط بغداد) والحسين بن روح النوبختي (ويسميه العوام في بغداد حسين أبو الروح) وعلي بن محمد السمري. وأما غيرهم فقد التقى الإمام المهدي(ع) مع العديد من الأشخاص على مختلف مستوياتهم العلمية، وفي أماكن مختلفة من العالم، ونقل بعضهم كلامه أو جوابه المكتوب على أوراق (وهو ما يعرف بالتواقيع) التي فيها يجيب على الأسئلة وينبه إلى الصواب ويثني على البعض ويذم آخرين. ويذكر أن جميع تواقيعه تحمل أسلوباً واحداً ونفساً واحداً يتوافق تماماً مع المهمة المذخور من أجلها وهي نصرة الحق على أنقاض الظلم.
متى يظهر المهدي(ع)؟
يتساءل البعض، بما في ذلك بعض الشيعة، عن سبب عدم ظهور المهدي(ع) مع أن الأرض قد ملئت ظلماً وجوراً. ويتخذ البعض من هذا التساؤل معولاً لهدم فكرة المهدي المنتظر من أساسها، على أساس أنه إن كان هناك مهدي سيظهر في آخر الزمان حقاً فلماذا لا يظهر الآن وها هي الأرض قد ملئت ظلماً وجوراً؟
والجواب على هذا السؤال هو أن الحديث لم يقل: ‹‹عندما تمتلئ ظلماً وجوراً›› بل قال ‹‹بعدما ملئت ظلماً وجوراً››، وهذا يعني أن ظهوره ليس بالضرورة سيحصل في اللحظة التي تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، وإنما في وقت ما بعد ذلك، يطول أو يقصر. بعبارة أخرى: إن امتلاء الأرض بالظلم والجور ليس إلا شرطاً من شروط ظهوره، وإنه لا يكفي إذا لم تتوفر الشروط الأخرى.
أهم هذه الشروط هو وجود الجماعة المؤمنة التي ستنهض معه(ع) عندما يعلن عن ظهوره في مكة. وقد صرح المهدي(ع) نفسه بهذا حيث قال: ‹‹ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد لما تأخر عنهم العمى بلقائنا ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكره ولا نؤثره منهم››. وهذا يعني أن المسلمين عموماً والشيعة بالخصوص عليهم واجب تهيئة الأرضية المناسبة لظهوره(ع).
ومهما يكن من أمر، فإن ظهوره لا يعرفه إلا الله تعالى، ولا نملك نحن سوى أن نهيئ أنفسنا بالتهذيب والعلم والعمل، ونهيئ أولادنا وبناتنا وأن ندعو بالفرج والظهور، وهكذا جيلاً بعد جيل إلى أن يمتع الله الناس بظهوره وعدله وقسطه. أما الإمام(ع) نفسه فلم ينفك يدعو الله تعالى لهذا اليوم فهو قائم عند الكعبة كل عام في موسم الحج يدعو: ‹‹اللهم أنجز لي ما وعدتني››.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.