الذكر والشكر
تدبر آية
1 من 2
(( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ))
البقرة:152
(1) ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ))
هاتان الكلمتان هما النواة لمؤلفات ضخمة!
لماذا؟ لأنهما تختصران:
(أ)
ما ينبغي على العبد أن يكون عليه في كل
حين، أو في أكثر الأحيان، أو على الأقل كلما "استيقظ" من الغفلة
(ب)
إستجابة المولى عز وجل لهذا التوجه من
العبد.
وهنا أمور:
(أولاً)
فائدة لغوية:
يستخدم
القرآن الكريم الشرط من قواعد اللغة العربية، ولكن ليس دائماً مع أداة الشرط،
أي كما في
قوله ((إنْ تجتنبوا كبائرَ ما تنهون عنه نكفّرْ عنكم سيئاتكم)) فكانت جملة الشرط
"إن تجتنبوا" وجاء جواب الشرط "نكفر"...
بل يأتي بدون
أداة الشرط، كما في قوله ((أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم))
وبما أن
"يخلُ" مجزوم بحذف الواو – أي لم يقل "يخلو" – فإنه جواب فعل
الشرط "أقتلوا"، فيكون التقدير "إن تقتلوا يوسف يخلُ وجهُ
أبيكم"...
ومثله ((فقلت
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً))،
فالشرط هو
((استغفروا)) والجواب ((يرسل))، فيكون التقدير "إن تستغفروا يرسل"..
ومثلها هاتان
الكلمتان – فالتقدير "إن تذكروني أذكركم".
(ثانياً) معنى "ذكرنا إياه" هنا هو
الانتباه إلى الله تعالى، أو الالتفات إلى وجوده المقدس في الحياة، فهو عكس الغفلة
عنه سبحانه.
أما "ذكره إيانا" فهو الاستجابة
لانتباهتنا له وعدم غفلتنا.
(2) آفاق الذكر منا ومنه تعالى
إن معنى "ذكرنا إياه" هنا هو
الالتفات إلى وجود الله في الحياة، فهو عكس الغفلة عنه سبحانه. لهذا تجده يعلمنا
أن "ذكر الله" هو أعظم من كل شيء،
فيقول ((ولذكرُ الله أكبر)) أي "أكبر من أي
شيء آخر".
فقد روي عن الإمام الصادق (ع):
((... وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا
هجمت على طاعته أومعصيته)) –
أي أن "التسبيحات الأربع" هي من أنواع الذكر، ولكن الذكر
"الأكبر" هو عدم الغفلة في الحالتين: الطاعة والمعصية.
أما "ذكره إيانا" فهو الاستجابة
لانتباهتنا له وعدم غفلتنا... لأنه...
·
لأنه يرد إلى الذهن سؤال: هل أنه تعالى لا
يذكرنا إلا إذا ذكرناه؟
الجواب: قطعاً لا؛ بل هو يذكرنا على الدوام،
بل لا يمكن أن يغفل عنا فهو ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) من جانب، و((ما كان ربك
نسياً)) من جانب آخر.
فهو يحوطنا بنعمه الظاهرة والباطنة وألطافه
الخفية في كل لحظة من وجودنا حتى مع الغفلة، بل والغفلة التامة من الكافرين.
إذاً، هي –
عناية إضافية
أو تشديد العناية الموجودة أصلاً
أو عناية محددة متعلقة بتوجهنا المحدد في ذلك
الحين.
فقد روي أن رسول الله (ص) قال:
((... خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما
طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من
ذكرني، وقال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم
بالنعم والإحسان والراحة والرضوان)).
·
إذاً، أن "نذكره" يعني أن نلتفت
إلى وجوده بأشد ما نستطيع، وهو ما سيسهم في إعطائنا ذلك السلام الداخلي المنشود –
((ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) – بغض النظر عما سيتحقق فيما بعد من "ذكره هو
لنا" كنتيجة...
وكلما كان هذا التفاعل مستغرقاً لأوقات أطول
من حياتنا، وبدرجات أعمق، كلما كانت الثمرة أعظم،
إلى أن تصل ((أذكروني)) إلى حالة
"الانشغال بالذكر عن الطلب"
عندها تكون الاستجابة ((أذكركم)) أعظم في
العطاء مما لو طلب –
فعن الصادق (ع) ((إن الله تبارك وتعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما
أعطي من سألني)).
مناجاة الذاكرين
لمولانا الإمام علي بن الحسين زين العابدين
(عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلهِي لَوْلا الْواجِبُ مِنْ
قَبُولِ أمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إيَّاكَ، عَلى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ
بِقَدْرِي، لا بِقَدْرِكَ، وَما عَسى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدارِي، حَتّى أُجْعَلَ
مَحَلاًّ لِتَقْدِيسِكَ، وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنا جَرَيانُ ذِكْرِكَ
عَلى أَلْسِنَتِنَا، وَإذْنُكَ لَنا بِدُعآئِكَ، وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ.
إلهِي فَأَلْهِمْنا ذِكْرَكَ
فِي الْخَلاءِ وَالْمَلاءِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالإِعْلانِ وَالإِسْرارِ، وَفِي
السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَآنِسْنا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ، وَاسْتَعْمِلْنا
بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ، وَالسَّعْي الْمَرْضِيِّ، وَجازِنا بِالْمِيزانِ
الَوَفِيِّ.
إلهِي بِكَ هامَتِ
الْقُلُوبُ الْوالِهَةُ، وَعَلى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبايِنَةُ،
فَلا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلاَّ بِذِكْراكَ، وَلا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلاّ
عِنْدَ رُؤْياكَ، أَنْتَ الْمُسَبَّحُ فِي كُلِّ مَكان، وَالْمَعْبُودُ فِي كُلِّ
زَمان، وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ أَوان، وَالْمَدْعُوُّ بِكُلِّ لِسان،
وَالْمُعَظَّمُ فِي كُلِّ جَنان، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّة بِغَيْرِ
ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ راحَة بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُور بِغَيْرِ
قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغْل بِغَيْرِ طاعَتِكَ.
إلهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ (( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً )) وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ (( فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ )) فَأَمَرْتَنا بِذِكْرِكَ، وَوَعَدْتَنا عَلَيْهِ أَنْ
تَذْكُرَنا تَشْرِيفاً لَنا وَتَفْخِيمَاً وَإعْظامَاً، وَها نَحْنُ ذاكِرُوكَ كَما
أَمَرْتَنا، فَأَنْجِزْ لَنا مَا وَعَدْتَنا يا ذاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيا
أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.