بحوث الأمة المسلمة في دعاء إبراهيم وإسماعيل (ع)
الحلقة ح4 / الرسول (ص) – المرجعية المحمدية
رابط يوتيوب: https://youtu.be/kw0CIMDDOlU
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأطهار
تسجيل رقم 6 من تسجيلات الرسول المبعوث في
الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل(ع) في دعائهما عندما كانا
يبنيان البيت العتيق، بعد أن يدعُوا الله تعالى ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)) والآية بعدها
يقول ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)).
هذا التسجيل في المرجعية المحمدية قلنا أن
رسول الله(ص) فيه هذه الجوانب الثلاثة: جانب الرسول المبعوث فيهم وجانب
النبي وجانب الرجل البشر والتي سميتها المرجعية المحمدية، حيث أنها في نطاق محدود
بخصوص "التشريع" ولكن بنطاق أوسع جداً في "الهدي" – طريقته،
سمته، نهجه، مما هو ليس في الحلال والحرام مما يتعلق بشخصه الكريم.
**
صعوبة الفصل
قبل أن آتي إلى نصين من الآيات نتحدث
فيهما، أود أن ألفت إلى صعوبة الفصل بين الرسول والنبي والرجل محمد(ص)،
وذلك لو نظرنا في الآية التي ذكرتها في تسجيل سابق، سورة الأعراف 157:
((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الامِّيَّ)) الصفات الثلاث ((الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالانْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، هنا كما نجد أن الإيمان به، إتباعه كرسول ونبي ورجل تندمج فيه ((آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ)) أي احترموه ((وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)) من القرآن والحكمة، يصعب لي الفصل.
ولكن الذي نستطيع قوله أن صفته البشرية صفة محمد(ص) البشر الرجل
تتعلق بالجانب الثالث من الدين وهو "الأخلاقيات" وهذا الذي نسمّيه "الهدي
المحمدي" الذي فيه إطار السنة النبوية كما أن فيه إطار المحمدية التي هي
مما اختاره هو(ص)، إختاره مما يعجبه، والذي يتفق المسلمون أو معظم
المسلمين أنه(ص) كان يختار الأفضل من بين الخيارات، يعني طريقة الطعام،
طريقة المشي، طريقة النوم، طريقة الكلام، يختار الأفضل؛ إن نسبتَها إلى ذكائه فهو
أذكى الناس فسيختار الأفضل، وإن نسبتَها إلى دقة نظره في الأمر وهو ينشأ منذ كان
صغيراً فسيختار الأفضل، وإن نسبتَها إلى العناية الإلهية فإنه يختار الأفضل، فهذا
أيضاً لك، تستطيع ذلك.
وكما ورد عن أمير المؤمنين(ع)
عندما وصفه قال: ((وقرن الله به مذ كان فطيماً)) فطيماً منذ فُطم على الرضاعة يعني
كان عمره سنتين ((مذ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يأخذ به سبل المكارم وخير
أخلاق العالم ليله ونهاره)).
فالنتيجة ستكون أن هديه(ص) سيكون الأفضل، فهذه الصفة البشرية
تتعلق بالهدي. الجانبان النبوي والرسالي هما الأكثر
تعلقاً بالدين في جانبي العقيدة والشريعة.
***
المرجعية المحمدية في التشريع
أما نصوص الآيات فنأخذ منها نصين: أحدهما
معلوم في قضية التشريع بشكل خاص محدد والثاني بشكل أعمّ.
النص الأول / الآيات من سورة
الأحزاب (من الآية 37 إلى 40) ((وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولاً . مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ
لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَرًا مَقْدُورًا . الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ
وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا . مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)).
النص الثاني / الآية الثانية من
سورة النساء الآية 84 ((فَقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً)).
أما النص الأول،
بالنظر إلى اللغة مباشرة من النص نجد أن
في الآيات الأولى من سورة الأحزاب هي قضية تطليق زيد بن حارثة(رض) من
زينب(رض) والتي تزوجها النبي فيما بعد، هي من أمهات المؤمنين، هي كانت
ممتعضة أصلاً من الزواج من زيد، فكانت تجد نفسها أنها ابنة عمة النبي(ص) هي من بني
عبدالمطلب، وزيد كان عبداً مملوكاً تبنّاه النبي(ص)، كانت العرب تحرّم أن يتزوج
الرجل طليقة ابنه بالتبني، يعني رجل يتزوج ابنه بالتبني من امرأة ثم يطلقها لا يجوز
لذلك الرجل الذي هو الأب بالتبني أن يتزوجها من بعده. هذه العلاقة علاقة انتهت،
ليس لها في واقعنا اليوم لأن الإسلام أصلاً أبطل التبني. لكن في وقتها كان لا يزال،
كان هو ابنه بالتبني، هي حقيقة واقعة حصلت منذ ما قبل الإسلام، وكان عندهم ذلك
حراماً حرمة شديدة لأنهم كانوا يعتبرون الإبن بالتبني كأنه صار ابنه. كما نجد الآن
في العالم الغربي الذي فيه تشريع التبني قانوناً، عندما يتم تبني إبن أو بنت
يُسجّل الإسم بإسم العائلة الجديدة للرجل أو المرأة الذين يتبنونه، حتى يتغير اسمه
فعند الناس هذا يصبح ابنهم.
وكان زيد(رض) يسمى حتى مما روي أنه كان
يسمى زيد بن محمد. فهذا الشيء ما كان يمكن في علم الله أن يُكسر إلا بأن يحصل مع
الشخصية العليا عندهم في مكانته في قومه كهذا الشخص الصادق الأمين المعظم من آل
عبدالمطلب الذين هم سادة مكة، وهو الأعلى كونه الآن هو رئيس المجتمع المسلم الجديد.
وطبعاً اللغة تقول أن رسول الله كان يقول له: ((أمسك عليك زوجك)) لأن الحرج الشديد
في ذلك لأنه يعلم أنها بالنسبة إليهم كانت حرمة شديدة ستُكسر بهذه الطريقة، سيجد
حرجاً في ذلك، يعني من الممكن أنهم سيتحدثون ويهرّجون ويفترون. وبالفعل وجدنا من
المؤسف أن النيل من رسول الله(ص) حصل في بعض الروايات أن رسول الله(ص) وليس فقط
زيد، قالوا أن رسول الله(ص) أُعجب بها، والكلام كله كذب في كذب، فمن هذا نستطيع أن
نفهم أن محمداً بن عبدالله(ص) مرجعية بصفته البشرية لأنه صار واجباً
على الجميع أن لا يسيروا مع ذلك العرف أن يتزوجوا من أبنائهم بالتبني، يعني هذا
كان عرفاً ولم يكن قانوناً منزّلاً من السماء. فهذا الأمر يشمل أي أمر آخر يجب على
المسلم أن يهتدي به بهدي النبي، بهدي محمد(ص) فيما صغر أو كبر في الأمور.
وأما النص الثاني،
الآية الثانية وهي آية التحريض على القتال
((فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ))، هنا واضحة: "أنت قاتل"، أمر إلهي بالقتال في سبيل
الله، وأن هذا في إعداد القوة اللازمة للقتال، التكليف الواجب عليك فقط، أنت لا
تستطيع أن توجبه على الآخرين من أتباعك؛ فماذا تصنع معهم؟ أنت بحاجة إلى جيش، ((حرّض
المؤمنين على القتال)).
و ((حرّض المؤمنين)) فيها أيضاً نكتة، لم يقل "وحرض الذين آمنوا" بل قال حرّض المؤمنين، الذين آمنوا كما أشرت وأشير وسوف أشير مراراً أنه
المصطلح القرآني لجميع المسلمين، المسلمين الذين آمنوا أي الذين أعلنوا أنهم آمنوا
بالدين الجديد ودخلوا به وصاروا مسلمين، لهم ما على المسلمين وعليهم ما عليهم دون
استثناء، أي أحد يدخل في الدين يصبح كما الآخرين؛ ولكن بما أن هؤلاء فيهم المنافقون
وفيهم الذين في قلوبهم مرض وفيهم المتزلفون وفيهم الذين سيكفرون بعد الإيمان بنص
القرآن ((قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)) أو ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا))، فإن الله تعالى
يفرّق بين الذين آمنوا الذين فيهم الأصناف كلها وعلى رأسها المؤمنون، عن المؤمنين
الذين هم مؤمنون حقاً، فحرّض المؤمنين أي التحريض الذي يأتي بالفائدة والنتيجة
هي أن يقوموا ويتجهزوا ومنهم القوة التي تقاتل وتأتي بالنتائج يأتي عليها الفتح هم
المؤمنون. طبعاً رسول الله(ص) يحرّض الجماعة المسلمة كلها، ولكنه يريد أن يقول أن
هؤلاء هم الهدف، هدف تحريضك.
فهذه أيضاً آية القتال والتحريض عليه تنطلق من الجانب البشري الفردي حيث
أن التكليف له وحده زائداً يقوم بتحريض المؤمنين لأن الآية لو كانت تتعلق
بالمرجعية النبوية في إدارة الصراع مع الكافرين كما نشير إلى المرجعية النبوية في
آيات النبي فربما تكون الآية أكثر صراحة فيه في الأمر بالتجريد.
هذه الآيات وآيات الأمة المسلمة
أما ربط هذه الآيات، آيات زيد بن حارثة
وآية القتال بآيات الأمة المسلمة نجد في قضية زيد
بن حارثة(رض) صلة في قضايا مختلفة حصلت لأفراد من الذرية المسلمة،
الأمة المسلمة(ع) في حياة علي والحسن والحسين بالخصوص، بحيث صارت من
المواضيع التي اشتغل بها الباحثون واشتغل العامة بها. مثال ذلك قبول علي(ع)
التحكيم مع وجود القوة العسكرية، وقبول الحسن(ع) الصلح مع وجود القوة
العسكرية، بينما قتال الحسين(ع) على قلة الناصرين، فكل واحدة انطلقت
حولها الأسئلة، عندها كما بالمقارنة بينها وبين أختيها، طرحت الأسئلة وجاءت إجابات
بعضها محتملة وبعضها شبه مؤكدة وبعضها مؤكدة قطعاً لوجود النص من العترة الطاهرة
بل ومن النبي(ص) قبل وقوع الأحداث. هل كان الإمام من هؤلاء الأئمة(ع)
مخيراً في هذا؟ واختار خياراً كان غيره من الأئمة كان سيختار غيره؟ أم أن لكل مقام
مقالا؟ وهكذا..
هذه الآية كانت حالة معينة، العرف
الاجتماعي يقول هذا لا يجوز، ثم يأتي عمل المعصوم، هنا النبي(ص) لضرب
هذا، فتنطلق الأسئلة لماذا؟ لماذا حصل هذا؟ لو لم ينزل النص القرآني فيه لبقي
الناس يغمزون ويلمزون في النبي(ص) وقد فعلوا مع وجود الآية فما بالك لو
لم تكن؟
وأما آية
القتال وتحريض المؤمنين فأيضاً نجدها، هذه واضحة، نجد أن الأئمة(ع)
كانوا يحرّضون وحسب، يعني الإمام علي(ع) كان يحرض ويجمّع، وبعد القتال
نجد أنه بعد فشل قضية التحكيم آخر عمره الشريف قبل أن يُقتل قال: ((إني معسكر غداً
في النخيلة)) من يريد أن يأتي يأتي، هو يحرضهم، لا يكلف إلا نفسه..
وحتى الإمام الحسن(ع) وقف وقال
لهم: "أتريدون القتال أم تريدون البقية؟" أي تريدون الإبقاء على أنفسكم؟
صاحوا "البقية البقية".. فإذاً عند ذلك، القضية عنده حُسمت باتجاه الصلح
والهدنة، فهذا الربط موجود لهذه المرجعية، المرجعية المحمدية بصفته البشرية(ص)
نجدها موجودة بشكل واضح في حياة الأئمة وهم الأمة المسلمة في دعاء إبراهيم وإسماعيل(ع).
والحمد لله رب العالمين.