لا تخلطوا الآني بالأبدي
والمحلي بالعالمي
(ب)
كيف الخلط؟
أولاً
- المشاكل السياسية الآنية
هذه،
في أحداثها وتوابعها وآثارها، من أشد ما يشوش على الموضوع، وهي تضغط على الفرد من
كل جانب لأنها تؤثر على كل شيء. فهي تشكل "عائقاً" أمام مجرد الاستماع
إلى الآخر، كما تشكل "مهرباً" لمن استمع واقتنع ولكن "العائق
النفسي" يمنع من الخضوع لما ثبت بالدليل القاطع.
هذا
النوع من الخلط، المشاكل السياسية الآنية، يتصف بصفة أخرى: الازدواجية...
هذه
"الازدواجية" تصل أحياناً إلى مديات لا تصدق، يعيشها الفرد والمجموع
والمؤسسات والدول بكاملها، وتبقى كما هي حتى بعد الإلفات إليها وكشفها...
أمثلة
واقعية:
1- في
أسبوع واحد من شهر شباط/فبراير عام 2011 قامت الجماهير في ثلاثة بلدان عربية –
البحرين وليبيا واليمن – بالثورة، البحرين يوم 14، ليبيا يوم 17، اليمن يوم 20.
فكيف وجدتم تعامل العرب – جماهير وحكومات ومؤسسات وعلماء دين وأحزاب – مع هذه
الثورات التي يجمعها أنها في بلدان عربية بشعوب عربية ضد أنظمة متهرئة؟
في نفس الأسبوع الذي وقفت الجامعة العربية رسمياً تطالب العالم
بالتدخل "لحماية الشعب الليبي من القذافي" وقفت مؤيدة متضامنة مع التدخل
السعودي "لقمع الشعب البحريني والوقوف مع آل خليفة"!
ثلاثة أيام فقط تفصل القضيتين المشتركتين تماماً في كل شيء،
ولكن رد الفعل متعاكساً تماماً.
ولنترك الجامعة العربية وغيرها، فما بال المؤسسات والجهات؟
بكل صلف، يقوم أحد كبار "الدعاة إلى الله(!)"
بالتضامن الكامل والدعوة إلى نصرة الشعب الليبي، في نفس الوقت يصف الثورة
البحرينية بالطائفية!
والشعوب؟ نفس الموقف الازدواجي.
هكذا، يتشوش البحث العلمي في المذاهب والتاريخ، لأن من
"يهتدي" بأقوال ذلك الداعية وأمثاله سينظر إلى ثورة البحرين أنها ثورة
طائفية تحركها إيران (ولا يهم أنهم لم يأتوا بدليل واحد على التدخل، ولا أن استمرار
سلمية الثورة البحرينية بعد الظلم ومرور 4 سنوات؛ حتى هدم دوار اللؤلؤة والمساجد والحسينيات
قامت به هو السلطة وحلفاؤها (زادوا على السعوديين الإمارتيين والأردنيين
والباكستانيين الأبطال على هذا الشعب العربي الأصيل، بينما تدمر ليبيا بأيدي
المنظمات الليبية التي دعموها بعد أن قامت الطائرات الغربية بحصتها أولاً).
2- يصل
الأمر بنفس الداعية الكبير أن يطلب، في خطبة جمعة، من أمريكا "أن تقف وقفة
لله" في نصرة سورية! هل هذا يعقل؟ أمريكا تقف وقفة لله في نصرة الشعب السوري؟َ!
لأن غالبية الشعب السوري من مذهب الداعية ولأن حزب الداعية من المعارضين.
3- تعمدت
الإتيان بهذا الداعية لأنه يعتبرونه من رموز "الوسطية"! فما بالكم
بالوهابية – علماؤها وأتباعها؟!
4- هؤلاء
الدعاة والعلماء والأتباع يديرون وجوههم صوب العراق فيجدون الشيعة في الحكم لهم
اليد الأعلى، ويجدون إخوتهم السنة يشكون من المظالم، ويشاهدون الأعمال القتالية في
مناطق أهل السنة، فلا شك في أنهم سيضعون "الشيعة" كلهم – محسنهم ومسيئهم
– في خانة واحدة مع "المذهب الشيعي" في مرجعياته وعلمائه وخطه المنتمي
لأهل البيت (عليهم السلام)، وعندها كيف يمكنهم الاستماع بعقل بارد وعواطف محيّدة
إلى نقاش في المذاهب والتاريخ الإسلامي؟
5- وماذا
عن الشيعة؟ نفس الشيء. يعانون أصلاً من الظلم، ثم يجدون التعامل الازدواجي في قضية
البحرين والعراق ولبنان، فتراهم يدافعون عن المسيء من الشيعة في اصطفاف طائفي يجعل
هو الآخر من البحث العلمي مشكلة، فتنطلق الكلمات المسيئة للآخرين، في رموزهم
الكبيرة من التاريخ والحاضر، ما يثير العاطفة عند الآخر فينغلق أكثر على ما ترسخ
في ذهنه من أن الشيعة ما هم إلا صنيعة فارسية أو يهودية أو من الجن الرافضي (حسبما
أفادنا محمد العريفي في قصة أحد العلماء واجتماعه بالجني الذي أخبره أن أخبث الناس
في الجن هم الرافضة أيضاً – فالحمد لله على اتفاق الجن والإنس ها هنا! ولك أن
تتخيل نوع ذهنية مئات الآلاف الذين يستمعون إلى العريفي أبو الجني وغيره أنى لهم
مجرد الاستماع إلى إضاءة تاريخية ما.)
6- من
الصعب أن تفصل الموقف من إيران من كل هذا – سيسأل الناس: لماذا تعين إيران سورية
مع أن نظامها بعثي علماني دكتاتوري لو لم يكن للجنبة الشيعية؟ والمشكلة أن البعض
من أهل السنة يعتقد أن الشيعة يعني إيران (لا سيما قبل عراق 2003) وبالتالي فهذا
التشيع لأهل البيت (ع) مؤكد أنه كاذب لأنه كيف يمكن لهذا الشيطان المسمى إيران أن
يكون موالياً لأهل البيت (ع) الذين يحبهم أهل السنة؟
7- وينسحب
هذا على الموقف من حزب الله وحسن نصر الله – فهو الآن "حزب اللات" و
"حسن نصر اللات" ومثيلاتها من الرقاعات المنتشرة، لأن الإشكالية نفسها. وعلى
الرغم من أن الكثيرين من العلمانيين والقوميين العروبيين وبعض الإسلاميين والعلماء
نجحوا في تحييد هذه المشكلة وأعلنوا أن حزب الله مقاومة عربية شريفة نجحت حيث لم
تنجح الدول، وأعلنوا أن صواريخ إيران ليس فقط بيد حزب الله ولكن بيد حماس والجهاد
الإسلامي في غزة صارت تمطر إسرائيل العدو الحقيقي، إلا أنها تبقى مشكلة عويصة
جداً، للتأثير الوهابي في الإعلام والمال والمنبر وهو موقف لا يتغير قيد شعرة: أي
شيعي هو عدو حتى لو كان معادياً لإسرائيل، لهذا منعوا حتى "الدعاء" لحزب
الله في حربه مع إسرائيل، فلا بد أن يجدوا جواباً، فقالوا: حزب الله هو في خدمة
إسرائيل في الحقيقة! كيف؟ لا يهم أن نلغي عقولنا، المهم هو إبقاء الحاجز الطائفي
سميكاً عالياً لا يمكن اختراقه أو العبور فوقه.
8- في نقاشات أو تعليقات على الانترنت تجد البعض يرد عليّ
أو يعلق بطريقة تكشف ما قلت أعلاه. من الصفات التي أطلقت عليّ في مجال الخلط
السياسي مع المذهب:
- أنت لست سامرائياً، أنت إيراني!
- هذا شخص كان سنياً ثم صار خمينياً!
- كنت أظنك عربياً فتبين أنك فارسي! (حتى قوميتي انقلبت!)
كما
ترى، فإنه يضعك في الإطار الذي بنوا حوله جدران الكراهية، ليسجنك فيه، من أجل سجن
أفكارك وكلامك، لأنه لا يقوى على نقاشها فليجأ إلى محاولة سجنها.
ولكن هل هي الدنيا المؤقتة وحسب؟
على الرغم من المشاكل السياسية وآثارها
على كل منا، لا بد أن نلتفت إلى أنها تبقى أقل قدراً من أن نجعلها تحجّم الآخرة
وما يتعلق بها من أفكار ومبادئ، فلنحاول قدر الإمكان طرد هذه المشاكل الآنية عندما
نناقش العقيدة والشريعة والأخلاقيات من خلال النصوص القرآنية والحديثية
والتاريخية، وإلا فلن نصل إلى نتيجة ذات فائدة، وستكون إيران أو السعودية أو أية
جهة أنت تكرهها قد حددت لك أولوياتك، فتكون قد انتصرت عليك، فهل أنت تريد هذا؟
أدعوك وأدعوك وأدعوك:
أن تحاول العيش مؤقتاً في العهد النبوي،
تستمع إلى آيات القرآن والبيان الرسولي لها والحديث النبوي فتفهمه، فتعود إلى
الواقع اليوم وأنت أقوى في مواجهة تشويش السياسة، وفي توجه صادق إلى الله، ليصدق
عليك ((والذين آمنوا أشد حباً لله)).
(يتبع)