في ذكرى
ولادة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
في مؤسسة الأبرار الإسلامية - لندن
23 / 2 / 2013
***
(1)
قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال .
رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن
فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ))
صاحب الذكرى الإمام الحسن
العسكري، إبن الإمام علي الهادي (ع) ووالد الإمام المنتظر (ع)، فهو المتوسط في آخر
السلسلة المباركة، والذي خرج من صلبه الإمام الموعود، إمامنا المهدي (ع).
ولد الإمام العسكري (ع) ـ كما عليه
أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة (232هـ) من الهجرة في المدينة المنورة
.واُمه اُم ولد إسمها : حديث أو سوسن .
وسمي الإمامان علي الهادي وابنه
الحسن (العسكريّان) لأنّ البيت الذي سكنا فيه في سامراء في محلة العسكر.
وقد أعلن الإمام الهادي إمامة ولده
الحسن كما جاء في روايات متعددة منها: ((أبو محمد ابني أصحّ آل محمد غريزةً
وأوثقهم حجة؛ وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف؛ وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها)).
ولكن يبدو أن الشك تطرق إلى إمامته
كما حصل مع بعض الأئمة السابقين من آبائه (ع)، حتى قال: ((ما مُنيَ أحد من آبائي
بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ)). فإن بعض هؤلاء طلب الإمامة لنفسه، كما هو المشهور من أخيه جعفر
الذي طلب من الخليفة المعتمد أن ينصبه محل أخيه، ولكن المعتمد أكد لجعفر أنه لم
يزل يحاول حط منزلة العسكري (ع) ولكن على حد قوله "وكان الله يأبى إلاّ أن
يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة وإن كنت عند
شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما
كان في أخيك ، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً".
وكونه الإمام المبرز كان واضحاً عند
الجميع، لا سيما الخلفاء ووزرائهم. بل وحتى عند المتوسمين من غير المسلمين، كما
حصل مع أحد الرهبان الذي اطلع على كرامات الإمام (ع) فأسلم، فلما سئل عن ذلك قال:
"وجدت المسيح أو نظيره فأسلمت على يده" وروي عنه القول "وهذا نظيره
في آياته وبراهينه".
وكان الشيعة في الأمصار يختلفون فيه
أيضاً، فكانوا يأتون أو يرسلون من يستقصي الأمر. نجد روايات من قبيل أحد ذرية أبي
ذر الغفاري (رض) يقول: "اختلفوا عندنا – أي في المدينة المنورة – في
أبي محمد، فجئتُ لأراه وأسمع منه أو أرى منه دلالةً ليَسْكُنَ قلبي وإني لولد أبي
ذر الغفاري". هنا يتدخل الإعجاز ليثبت الأمر، فعندما يخرج الإمام عليهم ينظر
إلى الرجل ويسأله: ((ما فعلت أمُّك حمدوية؟)) فيجيبه الرجل أنه بخير، فيعلن الشاب
لصاحبه أنه لم ير الإمام من قبل ولا يعرفه.
(2)
ربما يجد الباحث في الإمامين الهاديين العسكريين خير مثال على أن قاعدة الارتباط بين العمل والجزاء في
الدنيا هي قاعدة عامة لجميع البشر ومنهم الأنبياء والأوصياء (ع). بل لعلها في
الإمام العسكري ملفتة للنظر حقاً، وذلك بلحاظ ثلاثة أمور:
الأول: ثقل المهمة التي
ألقيت على عاتقه
الثاني: صعوبة الظروف
التي عاش فيها
الثالث: قصر مدة إمامته
عن تزاحم هذه الأعباء الكبيرة.
(3)
أما ثقل المهمة، فذلك
لأنها تشمل دور الإمام (ع)، والذي يتلخص في أمرين:
(أولاً) تبيان
الشريعة (ثانياً) حراسة الشريعة
أما تبيان الشريعة، فلعل أهم ما يمكن أن يقوم به الإمام من أئمة الهدى
هو تبيان القرآن الكريم، تفسيراً وتأويلاً، الأمر الذي وجدناه في التفسير
المنسوب إلى الإمام العسكري (ع).
(((وهنا تجدر ملاحظة حول كلمة "منسوب"،
فإن البعض يعتبرها طعناً، ولكن الحال هو أننا لا نملك ما يؤكد صدور التفسير من
الإمام (ع)، كما لا نملك النفي. فحال التفسير هذا كحال الروايات الحديثية كلها، ما
تعلق بالقرآن الكريم أو غيره.... هناك 3 آراء حول هذا التفسير: أنه كله للإمام (ع)،
أو أنه كله منحول، أو أنه بين بين ......... والقول الأخير أوسطها هو المعقول لأنه
حتى الذي ينسب أشياء غير حقيقية لا بد أن يأتي بروايات حقيقية صحيحة، لا سيما وأن
بعض التفسير يوافق القرآن الكريم، بل ويوضح بعض المبهمات من آياته...)))
من الآيات المهمة في ذلك التفسير ما
يتعلق بالحروف المقطعة أوائل بعض السور القرآنية، والتي وصلت إلى عشرين أو ثلاثين
قولاً:
ولكنَّ الإمام ( عليه السلام ) عالجَ
تلك المُعضلة بأحسن الوجوه وأقصرها ، إذ قال ( عليه السلام ) : ((يَا مُحمَّد ،
هَذا الكِتَاب الَّذي نزَّلنَاهُ عَليكَ هُوَ الحُروفُ المقطَّعَة التي منها (
أَلِف ) ، ( لام ) ، (مِيم ) ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأْتُوا بِمِثْلِهِ إنْ
كُنتُم صَادِقِين ، واسْتَعينُوا عَلَى ذَلِكَ بِسَائِرِ شُهَدَائِكُم .
ثُمَّ بيَّن أنَّهُم لا يَقدرُونَ
عَلَيه بِقَولِهِ : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن
يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))
آية مهمة أخرى: وهي الآية التي
نقرؤها عدة مرات كل يوم ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ). كان من ضمن تفسير
الإمام (ع) لها قوله: (( الصِّراطَ المُستَقِيم هو صِراطان : صراطٌ في
الدُّنيا ، وصراطٌ في الآخِرَة ، أمَّا الأوَّل فَهو مَا قَصُر عَنْ الغُلُوِّ ،
وارتَفَع عَن التَّقصيرِ ، واستقامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إلى شَيءٍ مِنَ البَاطِلِ
.وأمَّا الطَّرِيقُ الآخَرِ فَهوَ طَرِيقُ المُؤمِنِينَ إلى الجَنَّة ، الَّذي هُو
مُستَقِيم ، لا يَعدِلُونَ عَن الجَنَّةِ إلَى النَّارِ ، وَلا إلى غَيرِ النَّارِ
سِوَى الجَنَّة .))
الروايات غير التفسيرية
وطبعاً كان الإمام (ع) يقوم بدوره في
تبيان الأحكام الشرعية بشكل عام، وهذا واضح من الروايات التي جاءت عن الذين حدثوا
عنه (ع) والذين زادوا عن المائتين. ذلك أن التشيع كان قد انتشر منذ منتصف القرن
الثاني الهجري نتيجة لجهود الباقر والصادق عليهما السلام بالخصوص، فانتشرت مئات
الكتب التي دونت أحاديثهما (ع)، وتم تعضيدها بالتواصل مع الأئمة من بعدهما، وصولاً
إلى زمن الهاديين العسكريين في سامراء. حتى أن أحد معاصري العسكري (ع) وهو محمد بن
الحسن الصفّار أُثر عنه وحده ثلاثون أو أربعون كتاباً في مختلف أبواب الفقه
والأخلاقيات وغيرها.
وهكذا كان الإمام العسكري هو المرجع
للمؤمنين به في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الأمر الذي نجده واضحاً من الوفود
التي كانت تأتيه من أماكن عديدة، والأموال التي تحمل إليه.
إن وصول روايات عن هذا العدد من
المحدثين على الرغم من شدة التضييق – كما سأشير – على الإمام يعد أمراً يقرب من
المعجز، ولكن الله تعالى متم نوره.
طبعاً، هذا إضافة إلى علومهم الشاملة
التي نجدها عند الأئمة، ومن ذلك حديثهم بلغات الناس. فقد روي أن الإمام (ع) سمع
يكلم غلمانه بلغاتهم المختلفة، التركية والرومية وغيرها، فسئل عن ذلك فأوضح: ((إنّ
الله جلّ اسمه بيّنَ حجته من ساير خلقه وأعطاه معرفة بكل شيء ويعطيه اللغات ومعرفة
الأسباب والآجال والحوادث : ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق)).
أما حراسة الشريعة،
فتمثل في عدة أمور:
(أولها)
الدفاع عن القرآن الكريم،
كما فيما روي عن أن الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي (الذي ربما كانت معاصرته للإمام
العسكري آخر حياته)، والكندي له دور كبير في العلوم المختلفة وفي الفلسفة وعلم
النفس. وعلى أن اتجاهه الفلسفي لم يكن إلحادياً إلا أنه صار يظن أن في القرآن
متناقضات وعكف على البحث في ذلك ووضع مؤلف فيه (وكان غزير التأليف). سمع الإمام
(ع) بذلك فطلب من أحد شيعته الذين كانوا يحضرون الدرس عند الكندي أن يذهب إليه ويقنعه
بالتوقف عما يريد، وذلك بقوله (ع): ((صر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو
بسبيله ، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل : قد حضرتني مسألة أسألك عنها؛ فإنّه يستدعي
ذلك منك ، فقل له : إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما
تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك : إنّه من
الجائز؛ لأنه رجل يفهم إذا سمع ، فاذا أوجب ذلك فقل له : فما يدريك لعلّه أراد غير
الذي ذهبت أنت إليه ، فيكون واضعاً لغير معانيه؟))
فلما فعل ذلك الرجل، فعلاً فكر
الكندي بالأمر ووجد أنه معقول... فشك أن يكون التلميذ فكر فيه، فأقسم عليه أن
يخبره عنه، فقال التلميذ إنه له، فلم يقبل الكندي وقال: "كلاّ ما مثلك من
اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرّفني من أين لك هذا؟" فلما
أخبره أنه أبو محمد (ع)، قال: " الآن جئت به ، ما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من
ذلك البيت"، ثم دعا بالنار وأحرق ما كان أ لّفه.
وأحب أن ألفت إلى نقطتين جانبيتين في
هذه القصة: الأولى أن الإمام (ع) يعطي الناس حقهم إذ يصف الكندي أنه ((رجل يفهم
إذا سمع))؛ الثانية أن الكندي على سعة علمه وغزارة تأليفاته التي قاربت على
الثلاثمائة تجده يقبل من الإمام (ع) بسهولة في الوقت أشك جداً أنه كان سيقبل من
غيره، وفي هذا إشارة إلى المكانة المتميزة لأئمة أهل البيت (ع) عند الجميع، عامة
وخاصة.
وبذا نجد كيف أن الثقل الأصغر يقوم
بواجبه تجاه الثقل الأكبر، تبياناً لمعاني الآيات من جهة، ودفعاً للمحاولات التي
تلقي الشبهات في نقاء القرآن الكريم من الخطأ مهما كان.
(ثانيها)
التحذير من الفرق المنحرفة
والتي انتشرت في زمانه (ع)، بعد دخول
الشعوب في الإسلام والتفاعل الحاصل نتيجة الترجمة وغيرها، واشتغال الناس في
الفلسفة والبحث المتعمق في الأسئلة الأساسية كوجود الله تعالى وكنهه والعالم وخلقه.
من هؤلاء الثنوية، وهم المجوس الذين
يؤمنون بثنوية الأشياء، الخير والشر مصدرهما النور والظلمة، أي أن الله تعالى، وهو
النور، لم يكن القديم ولا شيء معه، بل معه الظلمة كشيء قديم أيضاً. فكانوا ممن حذر
منهم الإمام وأوضح فساد معتقدهم، وذلك من خلال تفسير القرآن أو الروايات الصريحة
في التحذير منهم.
(ثالثها)
التحذير من غلو الشيعة
ذكرت تفسير الإمام (ع) لآية الصراط
المستقيم وكيف أن الصراط ((مَا قَصُر عَنْ الغُلُوِّ ، وارتَفَع عَن التَّقصيرِ ،
واستقامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إلى شَيءٍ مِنَ البَاطِلِ))، فهو يريد إبعاد المؤمنين عن
الغلو في الأئمة(ع)، كما لا يريد لهم أن يقصروا فيهم، وعليه فأن يحافظوا على
التوازن فيهم (ع) وفي كل شيء.
من أخطر مصاديق الغلو هو التأليه،
والذي تشير إليه الرواية عن إدريس بن زياد بقوله "كنت أقول فيهم – أي الأئمة
– قولاً عظيماً))، فلما ذهب إلى سامراء للقاء الإمام (ع)، فعندما وصل إلى مكان
نزوله ونام، جاءه الإمام (ع) فأيقظه وعاجله بالقول: ((يا ادريس بل عباد مكرمون ولا
يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون))، مؤكداً له أنهم (ع) عباد لله كسائر العباد،
ولكنهم مكرمون بأنواع اللياقات المتميزة، وأنهم في النهاية لا يتحركون إلى بأمر
الله تعالى.
وأما صعوبة الظروف، فإن الوضع السياسي الخانق الذي عاش فيه الإمام (ع) جعل
أداءه لمهماته من أصعب الأمور. ذلك:
(أولاً) إن تعامل خلفاء بني العباس منذ أن غير المتوكل طريقة
أسلافه المأمون والمعتصم والواثق، سواء في القول بخلق القرآن أو التعامل مع أهل
البيت (ع) الذي كان أفضل في عهد أولئك، صارت من أسوأ ما يمكن، والتي كانت وراء حمل
الإمام الهادي (ومعه ولده العسكري) من المدينة المنورة إلى سامراء ((على أية حال
لو بقيا هناك لكانا اليوم حبيسا البقيع)....
(ثانياً) وجعلهما في الإقامة الجبرية، التي كان يتخللها الحبس
الشديد في السجن،
(ثالثاً) غير القيام بإرسال الشرطة لكبس البيت فجأة، أو التضييق
عليهما وعلى شيعتهما.
عاصر الإمام (ع) المعتزّ ربما لمدة
سنة حتى قتله الأتراك. وكان هذا شديداً جداً في العداوة.
بعده الخليفة المهتدي، الذي لم تطل
أيامه أيضاً، لأنه أراد أن يسير بسيرة العدل بين الناس، فنصحته الحاشية بالرجوع
إلى سيرة أسلافه في الحكم، ولكنه أبى، فقاتل الأتراك والموالي حتى انهزم جيشه وقتل.
على أن سيرة المهتدي مع الإمام (ع) لم تتغير عما قبل، فقد أودعه السجن أثناء تلك
الفترة القصيرة من حكمه.
أخيراً، المعتمد، الذي سار على نفس
الطريقة في التضييق الشديد والشدة. وهذا المعتمد بقي حتى كبس بيت الأئمة (ع) للقبض
على إمامنا صاحب العصر بعد وفاة أبيه (ع)، فأفلت منهم وخرج.
للإشارة إلى الوضع الخانق الذي عاش
فيه الإمام (ع)، أذكر رواية عن أحد الشيعة يقول: اجتمعنا بالعسكر، وترصّدنا
لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه:(ألا لا يسلِّمنّ عليَّ أحد، ولا
يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم).
وهذا يعني أن الشيعة كانوا يجتمعون
في سامراء وينتظرون الإمام (ع)، لا أن يذهبوا إليه. كما أن الإمام (ع) يأمرهم بعدم
السلام عليه لأن ذلك يعرضهم للتنكيل، وربما القتل كما تشير إليه الرواية التالية
عن محمد بن عبد العزيز البلخي الذي عندما رأى الإمام (ع) جاء إلى دار الخلافة قال
في نفسه: " تُرى إن صحتُ أيها الناس هذا حجّة الله عليكم فاعرِفوهُ،
يقتلوني؟!" فلما دنا الإمام منه أومأ بإصبعه السبابة على فمه: أنِ اسكُت، ثم
رآه ليلتها يقول:((إنما هو الكتمان أو القتل، فاتق الله على نفسك))
وأما قصر مدة إمامته (ع)،
فقد كانت بالكاد ست سنوات، بدأت يوم وفاة أبيه الهادي (ع) سنة 254هـ وانتهت يوم
وفاته سنة 260هـ.
(يتبع)
(4)
وقد استمرت مهمات إمامته في الأمر العظيم من بعده، وهو تهيئة الخلف المنتظر (ع) والشيعة لإمامته الفريدة، التي تميزت بالغيبة الطويلة...
فالتهيئة لإمامة ولده المنتظر (ع)
تعني:
(أولاً) توجيه
الشيعة إليه بالتعريف بشخصه
• روي أنه (ع) بشر بولادة
الحجة قبل الولادة بالقول: «إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله
وكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه))
• وعند حصول الولادة، كانت
عمته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (ع) قد تولّت ولادة زوجته ساعة الولادة. فكان
ذلك إشهاداً على الولادة المباركة.
• بعدها أخبر الشيعة
بحصولها، قوله: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي».
أو قوله الصريح في كتاب أو توقيع:
«ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً...»
أو بطريقة أخرى، بقوله لآخر: «عقّ
هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك...»
• وبعد بضع سنوات وقد شارفت
حياته (ع) على نهايتها، جاء بولده الحجة (ع) إلى مجلس ضم أربعين رجلاً، وقال لهم: «هذا
إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا،
أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا».
• بل قام بما يوجب
الاطمئنان أكثر، عندما جعل الحجة (ع) هو الذي يدل على نفسه الزكية، فعندما سأله
أحمد بن إسحاق عن علامة يطمئن قلبه بها، أخرج الإمام ولده الحجة وعمره ثلاث سنوات
فقال له: «أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين يا
أحمد ابن اسحاق»
• وبما أن إمامة ولده سيكون
أولها غيبة لعشرات السنين، فقد كان لزاماً على العسكري (ع) توجيه الشيعة إلى
الطريقة المناسبة وهي الوكلاء والسفراء فيما بين الإمام وشيعته، وهو ما بدأ في
حياة جده الهادي وأبيه العسكري. وهكذا، فقد وجه العسكري (ع) الناس إلى الوكلاء،
بدءاً بالوكيل الأول لولده الحجة عثمان بن سعيد العمري الذي جاء به إلى وفد من
شيعة اليمن وقال له: ((إمض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة والمأمون على مال الله
واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال)) ثم قال لهم: ((واشهدوا عليّ
انّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديّكم)).
(ثانياً)
إعلام الشيعة بقضية الغيبة، كأمر حتمي سيكون
لا شك أن الغيبة أمر
يزلزل العقيدة لأنها حدث استثنائي، لا سيما بعد وجود الأئمة ووصول الشيعة إليهم،
حتى على الرغم من التضييق. لهذا قالم الإمام العسكري (ع) بالتشديد على الأمر، كما
في قوله: «كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد
رسول الله المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول
الله، والمنكر لرسول الله كمن أنكر جميع الأنبياء، لأن طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا
والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من
عصمه الله عزّ وجل»
أيضاً أوضح ما يجب أن
يكون عليه الترتيب في الرجوع إلى الشرع المقدس، وذلك:
(في المرحلة
الأولى) عن طريق الوكلاء والسفراء / وكان بعضهم قد عاصر أبيه الهادي أيضاً، وبعضهم وكيله ووكيل ولده
الحجة (ع)، وذلك لتحقيق الاستمرارية المطلوبة. فكان أول السفراء الأربعة وثانيهم
هو أحد وكلاء العسكري (ع) وهو عثمان بن سعيد العمري الزيات وولده محمداً. فقد روي
عنه القول في عثمان بن وولده محمد: ( العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك فعني
يؤديان وما قالا فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)).
(في المرحلة
الثانية الممتدة) عن طريقة الفقهاء / قال (ع): «ينظر من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في
حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً )).
وأشار إلى المهمة الخطيرة للعلماء
بقوله: ((لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه،
والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته،
ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمّة
قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، اُولئك هم الأفضلون عند الله
عزوجل)).
وممّا يدل على أن الإمام العسكري
(عليه السلام) كان يوجّه القواعد الشعبية للرجوع الى الفقهاء وتقليدهم وأخذ معالم
دينهم عنهم ما جاء عنه(عليه السلام) :
«فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه
حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه». وهذا يعتبر
التأسيس الرسمي للمرجعية الشيعية.
وهذا النص هو الذي جاء بكلمة
"التقليد" التي يعرفها الشيعة في مفردة "مراجع التقليد" (أما
كلمة "مراجع" فمن أمر الإمام الحجة (ع) في إعلان نهاية الغيبة الصغرى
((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة
الله عليهم)).)
(5)
فهل نجح الإمام العسكري
(ع) في مهمته، وبأي درجة؟
إنه بلحاظ الأمور الثلاثة: ثقل
المهمة، والظروف الصعبة، وقصر المدة، فإننا نستطيع الجزم أن الإمام (ع) قد نجح نجاحاً كبيراً في جميع
الأمور التي كان عليه وضع إطارها وبعض تفاصيلها، ولكن ربما كان النجاح أقل في
الأمور التي كان للشيعة عموماً دور في إنجاحها.
(أولاً) تأسست
المرجعية الشرعية واستمرت
كأحد المحاور المركزية في حياة الشيعة.
(ثانياً)
إستمرت وبقيت وقويت المرجعية في حياة الأمة الإسلامية عموماً، كما نشهد أثرها اليوم بوضوح.
(ثالثاً) أين
صارت الفرق المنحرفة؟
أما الشيعية منها فقد انتهت...
(رابعاً)
تمسكت الشيعة المؤمنة به،
أي بالأحد عشر إماماً – بولده المنتظر (ع)، فهم الإثنا عشرية.
(خامساً) أما
الغلو، فإنه لم يعد هناك من يغالي فيهم (ع) كالذين حاربهم إمامنا العسكري (ع)، ولكن الحديث ذو شجون، إذ أن هناك غلواً نشهده هذا
اليوم وقبل اليوم... وهذا ليس من تقصير الإمام – حاشاه – ولكن من تقصير الذين
ينزعون إلى الغلو، كما هو من تقصير أولي الأمر من شيعته.
(سادساً) وأما
بعض تصرفات الشيعة، فإنها لا تزال تشكو رغم أمره (ع) ((جروا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح))، الأمر الذي
يعد خللاً في استجابة الشيعة، عامتهم وأولى الأمر منهن، لأمره (ع) ونهيه .
(6)
الجزاء
يقول الانجليز "الصورة تعدل ألف
كلمة"... والصورة التي التقطت من قبل جماعة آثارية غربية أوائل القرن العشرين
تبين ما جرى لقصر الخلفاء العباسيين من جهة وما جرى لبيت الإمام العسكري(ع) من جهة
أخرى. إنها تلخص حال إمامنا العسكري (ع) وحال معاصريه من خلفاء بني العباس الذي
حبسوه وحاصروه وضيقوا عليه وعلى شيعته بكل وسيلة: هذا الذي أرادوا ليس فقط محاصرته
في الإقامة الجبرية والسجن أحياناً ووضع المخبرين عليه حتى في سجنه، بل أن يكون كل
ذلك مع الإذلال حيث كانت إقامته مع أبيه الهادي (ع) في خان الصعاليك أولاً ثم في بيت متواضع في محلة العسكر
التركي، في الوقت الذي شيدوا
قصرهم المنيف... فانظر كيف انتهى هذا وذاك..
القصر صار أثراً بعد عين....
المنزل المتواضع هو الذي أبقى سامراء
مدينة عامرة التف حول أئمتها أهالي سامراء الكرام من الذرية المباركة، ومن ساكنهم
من غيرهم، فكانت محل سكناهم وبركة إنتاجهم الزراعي وارتباطهم النفسي... كما التف
حولها الملايين من الشيعة في العالم....
لذا، فإن الله تعالى هو الذي يقيم
هذه البيوت السامية – وهذا قوله ((أذن الله أن ترفع)) ((أذن الله أن ترفع))...
وهذا قوله تعالى في نفس هذه الآيات
الثلاث: ((لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن
فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب)).
أخيراً: من كلماته
ووصاياه
من الاجتماعيات: (( أَعرَفُ الناس
بحقوق إخوانه وأشدّهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً ))
وصف الحكيم والأحمق: (( قلب الأحمق
في فمه وفم الحكيم في قلبه.))
علاقة الحق بالعز والذل: (( وما ترك
عزيزٌ الحقَّ إلاّ ذلَّ ولا أخذ به ذليل إلاّ عزَّ. ))
عن الشكر: (( لا يعرف النعمة إلاّ
الشاكر ولا يشكرها إلاّ العارف ))، وهذه من أروع الأقوال، فقد جعل النتيجة،
وهي الشكر، هي الدالة على المقدمة، وهي النعمة – أي عكس المعتاد، وما ذلك إلا لأن
الشاكر أثبت أنه عرف النعمة حقاً، وغيره لو عرفها وشعر بها لفرح بها وقام بشكر
المنعم.
وأما ما يلي، فهو من أهم ما روي عنه
مما يستحق بحثاً طويلاً متكاملاً، ولكن أورده كنص: (( أُوصيكم بتقوى الله، والورع
في دينكم وصدق الحديث وأداء الأمانة من برٍّ أو فاجر وحسن الجوار فبهذا جاء محمدٌ
(صلى الله عليه وآله) .
صِـلوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم ،
واشهدوا جنائزهم، وأدّوا للناس حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في
حديثهِ وحَسُنَ خُلقه وأدّى الأمانة للناس، وقيل هذا شيعي يسرُّني ذلك.
إتقوا الله وكونوا لنا زيناً ولا
تكونوا لنا شيناً.
جرّوا إلينا كلّ مودةٍ ، وادفعوا
عنّا كلَّ قبيحٍ فما قيل فينا من خيرٍ فنحن أهله وما قيل فينا من سوءٍ فنحنُ منه
براء.
لنا حقٌّ في كتاب الله وقرابة مِن
رسولهِ وولادة طيبة لا يدّعي ذلك غيرنا إلاّ كذّاب. ))
والسلام على إمامنا الحسن
بن علي، ورزقنا الله في الدنيا اتباعه، والقيام بواجبه في أن نجر إليه كل مودة وأن
ندفع عنه كل قبيح، وفي الآخرة السعادة الكبرى بلقائه....
والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة
والسلام على نبينا محمد وآله الأطهار.