محاضرة في احتفال
مولد النبي (صلى الله عليه وآله)
مؤسسة الأبرار الإسلامية – لندن/بريطانيا
15/12/2016
بعنوان
((ميلاد الرسول (ص)... الولادة المرتبطة
بالرسالة))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد
وآله الهداة، شهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا
الله.
أرى
الكونَ أضحى نورُهُ يتوقَّدُ .... لأمرٍ بهِ نيرانُ فارسَ تُخمُدُ
وإيوانُ كسرى انشقَّ أعلاه مؤذناً .... بأن بناءَ
الدينِ عادَ يُشَيَّدُ
أرى أنَّ أمَّ الشِّرك أَضحتْ عقيمةً .... فهل
حانَ من خيرِ النبيّينَ مولِدُ؟
نعمْ كادَ يستولي الضَلالُ على الورى .... فأقبلَ
يهدي العالمينَ محمّدُ
رحم الله السيد رضا الهندي صاحب الأبيات.
التهاني والتبريكات بمناسبة مولد المصطفى – صلى الله
عليه وآله.
******
ميلاد فريد
نحن أمام ذكرى ميلاد فريد، فريد من بين سائر الولادات،
حتى ولادات الأنبياء العظام والأئمة الأطهار عليهم السلام،
وذلك لما وجدناه من ذكره – صلى الله عليه وآله – في
الكتاب، وتصديقه من السنة، ولما جرى معه من إرهاصات "قبل الولادة" و
"معها" و "بعدها" إلى زمان مبعثه الشريف.
أولاً / ميلاد نبي ورسول، بل خاتم الأنبياء والمرسلين
(ص)
1- يتعلق بالرسالة الخاتمة
قال تعالى ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ
اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) الأحزاب:40
ما يعني أنه مولد الرسول الذي ختمت به مسيرة الرسالات
والنبوات:
بالكتاب الخاتم – القرآن الكريم -،
والشريعة الخاتمة المهيمنة على ما قبلها من الشرائع،
بل الشريعة التي جاء معها الوعد بالظهور على الدين كله في خاتمة المطاف ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) التوبة:33
2- أولهم ميثاقاً /
على الرغم من أن البعثة المحمدية هي آخر مسيرة الأنبياء
والمرسلين (ع)،
إلا أننا نجد من النصوص القرآنية والحديثية ما يؤكد دون
شك أن رسول الله (ص) ليس فقط آخر الأنبياء، ولكنه أعظمهم على الإطلاق
((وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)) الأحزاب:7
والدليل هو
أنه اعتمد التسلسل التاريخي في البعثات الأربع بعثة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (ع)،
حسب تسلسلها، ولكنها جاء إلى بعثة النبي (ص) فذكرها قبلها في السرد مع أنها آخرها
في التسلسل التاريخي،
وما هذا إلا
كي يقدمه (ص) على أولي العزم (ع)، فصار أعظمهم على الإطلاق.
3- يؤمنون به وينصرونه /
بل أن الله تعالى أمره الأنبياء (ع) كلهم بالإيمان برسول الله (ص):
((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ، قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ
ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ، قَالُوا أَقْرَرْنَا ، قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم
مِّنَ الشَّاهِدِينَ)) آل عمران:81
ولعل صدى هذه الآية المباركة هو ما روي عنه (ص):
((كنتُ أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث)).
فإن القضية في
عالم ما قبل الخلق، أو لنقل عالم "الذر"، كانت "قبل الزمان"،
فإنها اجتماع لكل الخلق في ذلك العالم،
هناك تم أخذ
الميثاق والإشهاد من النبيين (ع) على الإيمان بالنبي (ص) ونصرته، ما يجعله سيدهم
جميعاً.
ولنعم ما قاله السيد رضا الهندي:
له الصدرُ بينَ الأنبياءِ وقبلُهُمْ .... على رأسهِ تاجُ النبوةِ
يُعقدُ
لئِنْ سبقوهُ بالمجيء فإنَّما ....
أَتَوا ليبُثُّوا أمرَهُ ويَمَهِّدوا
ثانياً /
إرهاصات الميلاد المبارك
1- إرهاصات الحمل وأيام
الميلاد
حدّث الإمام الصادق (ع) كيف أن السيدة آمنة بنت
وهب عندما أخذها المخاض وكانت عندها فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب، فلما وضعته
سألت إحداهما الأخرى: "هل ترين ما أرى؟
فقالت: وما ترين؟
قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق
والمغرب."
وفي رواية أخرى أن السيّدة آمنة (ع) وصفت حملها
بالنبي (ص) بالقول:
"... لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب
النساء من ثقل الحمل، ورأيت في نومي كأنّ آتياً أتاني وقال لي: قد حملت بخير
الأنام."
وتضيف:
"فلمّا حان وقت
الولادة خفّ ذلك عليّ حتّى وضعته (ص) وهو يتّقي الأرض بيديه ، وسمعت قائلاً يقول:
وضعت خير البشر فعوّذيه بالواحد الصمد من شرّ كل باغٍ وحاسد".
وفي أخرى تقول:
"لمّا سقط إلى الأرض اتّقى الأرض بيديه
وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج منّي نور أضاء ما بين السماء والأرض".
لآمنةَ
البُشرى مدى الدهرِ إذْ غَدتْ .... وفي حِجرِها خيرُ النبيّينَ يولَدُ
وأي بشرى وأي فخر للسيدة آمنة بنت وهب (ع) وهي ترى بعينيها ما يفعله هذه
الوليد المبارك لحظة استقبال الدنيا له.
2- إرهاصات أيام الطفولة
المباركة
لا شك في أن إنساناً
تصاحب ميلاده هذه المعجزات ستكون حياته مليئة بالمعجزات والكرامات، فإن الطاقة الكامنة والمتدفقة من هذا الوجود
المبارك تؤثر على ما حولها بشكل غير معتاد.
من هذا "البركات" التي حلّت أينما حلّ – صلى
الله عليه وآله، منها أيام طفولته الأولى...
* بركاته (ص) في بني سعد
حدثت مرضعته السيدة حليمة كيف أنها لم تأخذه (ص) أولاً،
ثم قررت أخذه ، فسألها زوجها...
"فقالت:
عسى أن تكون فيه بركة. فأخذتـُه فسعدتُ بأخذه"
تحدث بعدها
كيف أن الله تعالى أفاض عليها من اللبن لترضع حبيبه وصفيه (ص)...
وما أن جاءت
تركب دابتها، وكانت حمارة ضعيفة، حتى أسرعت بها،
فسألنها
النسوة: "أليست أتانك الضعيفة يا بنت أبي ذؤيب؟! قالت: بلى ، ولكنها غلامي
الرضيع".
فلما جاءت به
في قومها ودارها، ما أن حل بالدار إلا وفوجئوا بالماعز الضعيفة التي يملكون تدر
لبناً وفيراً، ببركة المصطفى (ص).
** بركاته في بيت أبي طالب (ع)
أول ما دخل ذلك البيت الكريم حلت فيه البركات، ومنها في
ما كانوا يشعرون به من وفرة الطعام إذا أكل (ص) معهم، وتغير ذلك إذا لم يكن معهم.
ما زاد في شدة حب أبي طالب وفاطمة بنت أسد (ع) له
وعنايتهم به (ص).
3- إخبارات من السابقين
* عبد المطلب وسيف بن ذي يزن
جاءت
الوفود لتهنئة الملك سيف بن ذي يزن بعد استعادته اليمن من الأحباش، ومنهم وفد مكة
برئاسة عبد المطلب...
نقرأ
ما نريد من الحديث بين الرجلين:
قال : "يا عبد المطلب إني مفض
إليك من سر علمي ، ... إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه
لأنفسنا ، واحتجبناه دون غيرنا خيراً عظيماً ، وخطراً جسيما ، فيه شرف الحياة ،
وفضيلة الوفاة ، للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة "
فسأله عبد المطلب عنه،
فقال ابن ذي يزن : "إذا ولد مولود بتهامة ، غلام به
علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم
القيامة".
ثم قال : "هذا حينه الذي يولد
فيه ، أو قد وُلد ، واسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ،
... يكسر الأوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان ، قوله فصل
وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله"
فطلب عبد المطلب المزيد من الإيضاح...
فقال الملك : "والبيت ذي الحُجُب
والعلامات على النُّقُب ، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب" .
فسجد عبد المطلب على الأرض شكراً لله؛
فسأله الملك إن كان قد وجد شيئاً مما أخبره به،
فأكد عبد المطلب وجود الحفيد اليتيم وأنه كافله،
فحذره ابن ذي اليزن من بعض أهل الكتاب،
وأضاف ناصحاً: "واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين
معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل ،
وينصبون له الحبائل فهم فاعلون أو أبناؤهم
..."
لهذا كان عبد المطلب بعدها يعامله (ص) معاملة استثنائية، كما روي
أنه عندما كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، كان بنوه يجلسون حول ولا يجلس عليه
أحد منهم،
ولكن إذا جاء الطفل المبارك (ص) يأتي فيجلس
عليه ، فيحاول أعمامه تأخيره عن فراش أبيهم ، فينهاهم عبد المطلب وهو يقول :
"دعوا ابني ، فوالله إن له لشأناً".
على أن عبد المطلب لم يكن بحاجة إلى
إخبار بن ذي يزن، لأن
علمهم به (ص) متوارث أباً عن جد...
وفي هذا يقول أبو طالب، عندما يذكر ذهاب
النبي (ص) معه في رحلة الشام:
إن ابن آمنةَ النبيَّ محمّداً *** عندي بمنزلةٍ من
الأولادِ
راعيتُ منهُ قرابةً موصولةً *** و حفِظْتُ فيهِ
وصيّةَ الأجدادِ
** معرفة الأمم السابقة به (ص)
ذلك التحذير من بن ذي
يزن لأنه يعلم بعلم أهل الكتاب ببزوع فجر النبي المكي المدني...
فقد روي أنّ السيّدة آمنة (ع) جاءت بوليدها (ص) المدينة نزلت به في دار
النابغة من بني عدي بن النجّار، حدّث النبي (ص) عن بعض ما كان يحصل من بعض أهل
الكتاب معه...
منها، إنّه (ص) قال:
"نظرت إلى رجل من اليهود يختلف وينظر إليّ
ثمّ ينصرف عنّي، فلقيني يوماً خالياً، فقال لي: يا غلام ما اسمك؟
قلت: أحمد.
فنظر إلى ظهري ، فسمعته يقول: هذا نبي هذه
الاُمّة،
ثمّ راح إلى أخوالي فخبّرهم الخبر،
فأخبروا اُمّي فخافت عليّ وخرجنا من المدينة".
4- البركات على
الناس جميعاً
كم كانت له (ص) من معجزات وبركات طيلة حياته، في
الحرب والسلم،
ولكننا نذكر هنا ما يتعلق بزمان الطفولة حيث
تناسب ذكرى الميلاد...
من أهمها شهرة حادثة الاستسقاء.
الاستسقاء بالغلام المبارك (ص)
رووا أنه ...
"أصاب مكة قحط شديد ، فقل الماء ، وأصبح الناس فى فقر شديد ، وكان
من عادتهم أن يخرجوا إلى الكعبة ويستسقوا بأحد من الصالحين ،
وطلبوا من أبي طالب أن يقوم هو بالاستسقاء ،
فخرج أبو طالب ، و معه ابن أخيه محمد ، وألصق ظهر النبي بالكعبة ، وظل
يجتهد فى الدعاء إلى الله تعالى أن يُنزل الله عليهم مطر ، حتى لا يموت الأطفال
والنساء والرجال ، وقريش كلها تدعو الله أن يستجيب دعاء أبي طالب.
و ما زال أبو طالب يستسقي برسول الله
(ص) حتى
تجمعت السحب فى السماء ، ونزل المطر.. "
يبدو أن تلك الحادثة كانت تعجب النبي (ص)،
فإنه عندما جاءه الناس في المدينة بعد البعثة يطلبون منه
الاستسقاء، وفعل، وصارت السماء تمطر مطراً شديداً حتى آذت بعض ممتلكاتهم، دعا (ص)
حتى انجابت السماء عن البيوت وصار حول المدينة على المزارع بدعوته ((اللهم
حوالينا ولا علينا))،
فضحك (ص)، ثم قال:
((لله درّ أبي طالب لو كان حياً لقرّت عينه،
من ينشدنا قوله؟))
فقام علي (ع) فقال: ((يا رسول الله لعلك أردت:
وأبيض يُستَسقى الغَمامُ بوَجِهِهِ ثمالُ
اليَتامى عِصمَةٌ للأرامِلِ
قال: أجل))
فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة اللامية الذائعة لأبي طالب (ع) ورسول
الله(ص) يستغفر لأبي طالب على المنبر".
5- موقعية السفارة عن الله
تعالى حتى قبل البعثة
من أهم الحوادث التي اشتهرت ولم يختلف فيها اثنان حادثة
وضع الحجر الأسود بيد النبي (ص) عندما جددت قريش بناء البيت العتيق.
الكعبة هي "البيت
العتيق" حسب النص القرآني
((أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ)) آل
عمران:96،
ولعلها كانت منذ زمان آدم (ع)،
ثم أعاد بناءها إبراهيم وإسماعيل (ع):
((وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم))
البقرة:127.
كما أن المعروف أن "الحجر
الأسود" حجر من الجنة، كما نصت الروايات، وبالتالي فإن هذا الحجر يعد أشرف
وأعظم جزء في الكعبة المعظمة..
وإذا كان الحجر قد وضعه النبيان
العظيمان (ع) عندما بنيا الكعبة، فإنه تشرف بيدي سيد المرسلين (ص) عندما أعيد بناء
الكعبة 5 سنوات فقط قبل البعثة.
قصة وضع الحجر الأسود
لما بلغ رسول الله (ص) 35 عاماً قامت قريش بتجديد بناء الكعبة،
وقسموا العمل بين القبائل،
ولكن عندما وصل العمل إلى موضع
الحجر الأسود تنازعوا حول من القبيلة التي تقوم بوضع الحجر الأسود في موضعه في
الركن، ووصل النزاع إلى القتال لولا أن اقترح عليهم أبو أمية المخزومي (ومخزوم
أكثر القبائل عدداً) أن يجعلوا الأمر إلى "أول داخل في البيت الحرام"؛
وافقوا على اقتراحه.
وبعد انتظار، إذا بالطلعة
المباركة لرسول الله (ص)، فكان أول داخل، فلم يسعهم سوى القبول، فقد كان عندهم
"الصادق الأمين"، وهو من هو في بني عبد المطلب سادة مكة.
أخبروه بالمشكلة، فقام (ص)
بحلها، بذكائه وحكمته، أو بإلهام المولى عز وجل،
أن يأتوه بثوب، فلما جاءوا به،
قام بوضع الحجر الأسود عليه، ثم قال:
"لتأخذ كل قبيلة بناحية من
الثوب ثم ارفعوه جميعاً"
فلما
رفعوه وجاءوا به إلى الركن، تناوله (ص) بيديه الشريفتين ووضعه في موضعه.
فانظروا كيف قام بحل المشكلة التي
كانت يمكن أن تؤدي إلى القتال والدماء، فقلبها إلى مشاركة الجميع في هذا الشرف،
ورضاهم به؛
وكيف أنه كان الوريث لتلك
السلسلة المباركة من الأنبياء العظام (ع) وعلاقتهم بالبيت الحرام الذي كان أول بيت
وضع للعبادة.
وهكذا، فكأن آخر الإرهاصات
المهمة لبعثته الشريفة، والتي بدأت منذ مولده وما بعده، تأكيد علاقته بالبيت
الحرام والكعبة المعظمة والحجر الأسود الذي أنزل من الجنة،
فمع وجوده (ص) لا يسمح الله
تعالى لأحد من الخلق بوضع هذا الحجر في بيته العتيق، إتماماً لإعادة بنائه في ذلك
الوقت.
***
ثالثاً / أهداف وجوده المبارك
أعلن القرآن أن هدف
الخلق هو عبادة الله تعالى:
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) الذاريات:56
وهذا لا يكون إلا من خلال (أ) واقع الحال في الناس + (ب)
إطار التعامل في حياتهم،
ولا يصلح واقع الناس إلا بالعدل، فإنه بالظلم
يفقدون الثقة بكل شيء ومن ذلك الدين
ولا يصلح التعامل فيما بينهم إلا بحسن الخلق، لأن
سوء العلاقات يسمم الحياة ما يؤثر عليها في إطارها الذي أرادته الشريعة
فكيف نجد هذا في رسالة الذي نحتفل بميلاده اليوم؟
لنلخص هذا من آية مباركة و حديث
شريف:
أما الآية فهي:
((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَأَنزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) الحديد:25
فالميلاد هو ميلاد الذي
سيصل بصورة "القسط" إلى شكلها الأسمى،
و "القسط" =
العدل الظاهر على أرض الواقع،
بمعنى أن هدف بعثة
الأنبياء (ع) = إقامة العدل في الحياة، فيكونون قد جعلوا المجتمعات "تقوم
بالقسط"
ورسول الله (ص)، كونه
خاتم النبيين وكونه الأعظم من بينهم، وكونه بيد الكتاب الخاتم والشريعة المهيمنة
على ما قبلها، هو الذي "أقام القسط"، أي "العدل على أرض
الواقع"، بأفضل ما يكون...
وأما الحديث فهو قوله
(ص):
((إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ
مَكارِمَ الأخلاق))
وكلمة "إنما" إما تعني
"الحصر" حقاً، أي أنه (ص) لم يبعث إلا لهذه القضية: إتمام مكارم
الأخلاق؛
أو أنها تعني
"المبالغة" من أجل إلفات النظر إلى الأهمية القصوى لمكارم الأخلاق.
على أية حال، لا بد وأن
تكون "مكارم الأخلاق" من أشد الأمور أهمية في بعثته الشريفة.
وبالتالي لا بد وأن تكون من أهم الجوانب في شخصيته
الفريدة،
وبالتالي لا بد من "عناية إلهية خاصة"،
الأمر الذي يخبرنا به
أمير المؤمنين (ع) بقوله:
((ولقد قرن الله به من لدن أن
كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله
ونهاره))
"أعظم ملائكته" – لم يقل جبريل (ع) أو غيره، بل أعظم ملك،
وهذا من شدة عناية الله تعالى بالنبي (ص)...
= ولا يقولن قائل: كيف أن هذا الملك يعلم النبي (ص) مع إيماننا أنه (ص)
أعظم وأعلم من سائر الخلق ومنهم الملائكة؟
لأن الإمام (ع) يقول – بكل دقة – أن التعليم هو "من الله
تعالى" ولكن الآلية هي من خلال ذلك الملك العظيم،
كما أن التعليم "ليس لذات النبي (ص)" التي هي الأسمى،
ولكنه في "الطريقة" التي "يسلك" بها في تفاعله مع
العالم الخارجي.
******
رابعاً / ماذا ينتج من
الجمع بين الاثنين: العدل والأخلاق؟
إن كلاً من هذين
العمودين هو من أجلى سمات "الرحمة"،
فإنها الرحمة التي
تلد العدل، حتى عند العقوبة – ترحم المظلوم برد ظلامته وترحم الظالم
بتخفيف الحمل من على ظهره
وإنها الرحمة التي
تحيط بكل خلق جميل – العفو، المحبة، الكرم، العطف وغيرها
فلا عجب إذا ما وجدنا
هذا العبد الصالح، خيرة الله تعالى في خلقه أجمعين، نبينا محمداً صلى الله عليه
وآله،
يصبح "الرحمة
الشاملة التامة لسائر الخلق" –
((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) الأنبياء:107.
******
خامساً / ما أراده الله
ورسوله (ص)، أي "القسط + الأخلاق"، وما أراده الآخرون
هذه المسيرة الطويلة
للأنبياء الكرام (ع)، المتوجة بخاتمهم وسيدهم (ص)،
والتي لا يشكل
"الميلاد" إلا نقطة بداية تحقق الخطة الإلهية،
لن تترسخ في الناس إلا
بعد زمان طويل،
وهذا كان بتهيئة الأخ
والوزير الذي تلبّس بحالة "القسط" وتسربل بلباس "الخلق
العظيم" الذي حباه به سيد المرسلين (ص)،
الأمر الذي وجدناه،
ووجده كل منصف، من مسلمين وغير مسلمين،
في حياة علي (ع)،
التي كانت تعلن في كل
تفصيلة منها عن "حالة القسط" + "إطار حسن الخلق"...
وهو (ع)
المخبر عن كيفية إشاعته للعدل والأخلاق في إحدى خطبه، وهو يعلم الناس كيف تحاسب
حكامها – يسألهم من ضمن ذلك ...
عن العدل: ((وَأَلْبَسْتُكُمُ العَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي))
وعن الأخلاق:
((وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الأخْلاقِ مِنْ نَفْسِي))
وكيف لا وكانت تهيئته الأخلاقية على يد صاحب الذكرى صاحب الخلق العظيم (ص)،
كما وصف علي (ع) نفسه:
((ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً
ويأمرني بالاقتداء به))
وما أجمل وصف الشاعر:
ورُبِّيتَ في حِجْرِ النبيِّ محمّدٍ *** فطُوبى لِمَنْ مِنْ أحمدٍ ضَمَّهُ
حِجْرُ
وغذّاكَ بالعلمِ الإلهيِّ ناشئاً *** فلا عِلْمَ إلاّ منكَ قد حاطَهُ خُبْرُ
بآدابِهِ أُدِّبْتَ طفلاً ويافعاً *** فأكْسَبْنَكَ الأخلاقَ أخلاقُهُ الغُرُّ
إن ما نجده اليوم من
الخلل الكبير في هذين، من انتشار
الظلم وانتشار سوء الخلق، بل وفي ضمور "المنظومة الأخلاقية" للإسلام،
ومنذ القرن الأول،
إنما جاء مما أراده
الآخرون من تحجيم دور علي وآل علي (ع)،
ولا أدري كم كانوا واعين
للنتائج السيئة لما سيحصل،
إذ أصيب "العدل"
بشكل مباشر، وانتشر الظلم بما هو من البديهيات، وبالتالي لم يعد عند المسلم
العادي من حافز ليقوم "بالقسط" هو بعد عزل "القدوة"،
كما أصيبت
"الأخلاقيات" بشكل مباشر، فلم يعد هناك من توجيه عام للتخلق بأحسن الأخلاق، من قبل حكام يفتقدون
للحد الأدنى منها...
وهذا الأمر استمر في
انحدار حتى اليوم...
+++++ نتطلع إلى الغد
المشرق
ونحن لا نزال نتطلع إلى
"الانقلاب" في الأحوال من حالة الانحدار إلى حالة الصعود،
من أجل تحقيق تلك الآية
المباركة التي ذكرتها أولاً:
((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))
تحقيق "الوعد الإلهي" من بعثة سيد المرسلين
(ص)، الذي نحتفل اليوم بذكرى ميلاده المبارك الذي كان المقدمة للمقطع الأخير في
مسيرة الرسالات.
تحقيق الوعد في الثاني عشر من الأطهار الأبرار، حملة رسالات
الأنبياء (ع)، بشكلها الأخير – رسالة الخاتم محمد (ص).
******
سادساً / نجدد العهد
إن ذكرى ميلاد سيد
المرسلين، وهو الموصوف من ربه بالكلمات ذات العلاقة:
((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) الشورى:52 فهو الطريق العدل تماماً،
و ((وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)) القلم:4،
يجب أن تكون حافزاً
قوياً جداً لنا، وفي كل حين، من أجل تفعيل "العدل + الخلق
القويم" في حياتنا ومع الآخرين.
إننا نجدد العهد مع سيد
المرسلين، نبينا محمد (ص)، على بذل الوسع في اتباعه وطاعته، بالخصوص في تفعيل
العدل والأخلاق الفاضلة في حياتنا –
مع النفس ، ومع الناس ،
ومع الله تعالى...
فإننا نتحدث
عن الذي وصفه أحد أعرف الناس به – عمه وحاميه وكافله "أبو طالب" (سلام
الله عليه) – عن طريق وصف العلاقة بينه (ص) وبين ربه سبحانه وتعالى،
عندما أخبرنا
أن هذا الاسم الفريد، مُحَمَّد، الذي
سماه به جده عبد المطلب إنما كان لأنه (ص) يجمع صفات الحمد أو الصفات المحمودة
– كما قال لهم عبد المطلب -...
ولكن أبا طالب زاد على ذلك أن الإسم
كان اختياراً من الله تعالى – إذ قال:
لقد أكرمَ اللهُ النبيَّ محمّداً *** فأكرَمُ
خَلْقِ اللهِ في الناسِ أحمدُ
وشَقَّ لَهُ مِنْ أسمِهِ لِيُجِلَّهُ *** فَذُو
العَرشِ مَحمودٌ وهذا محمّدُ
نجدد التهاني والتبريكات
بهذه المناسبة الجميلة،
والحمد لله وصلى الله
على محمد وآله الهداة.