شهادة محمد بن أبي بكر
14 صفر 38هـ
المصدر: كتاب
"من مدرسة الإمام علي (ع)" للسيد محمد بحر العلوم (رحمه الله)
·
بشيء من
التلخيص والتحرير غير المخلّ.
اجتمع المجلس في رحبة الكوفة...
خطب علي (ع) فيهم، بعدما بلغه التكالب الأموي على محمد بن أبي بكر، واليه
على مصر، وقال فيما قال:
((أما بعد، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم
ابن النابغة، عدو الله، وعدو من والاه، ووليّ من عادى الله، فلا يكون أهل الضلال
إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت أشدّ اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على
حقّكم...)).
تشاور (معاوية) مع عدد من أصحابه من أمثال عمرو بن العاص وبسر بن أرطأة،
ممن جمعتهم وحدة الطلب،
فقال عمرو بن العاص: "أرى والله، أن أمر هذه البلاد المصرية لكثرة
خراجها، وعدد أهلها؛ قد أهمّك، فدعوتنا تسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا،
وله جمعتنا، فأعزم وأصرم، ونعم الرأي ما رأيت! إن في افتتاحها عزّك، وعزّ أصحابك،
وذلّ عدوّك، وكبت أهل الخلاف عليك.."
فقال معاوية لبقيّة الصحب: "ما ترون؟ قالوا: نرى ما رأى عمرو بن
العاص."
تمّ الاتفاق على غزو مصر، وجهّز لها جيش بقيادة ابن العاص.
كانت الأخبار من مصر تصل للإمام علي (ع) سريعة، وكان أمر محمد يهمّ علياً (ع)
كثيراً، فقد كان يثني عليه ويفضّله.
محمد ذلك الرجل الذي قضى شبابه في مدرسة الإمام علي (ع)،
ينتهل من نميرها، حتى أصبح له صاحباً بصيراً لا يحيد عنه في أحلك الظروف، ولو كان
لا يحمل في جنبيه نفسية المؤمن الذي أخلص لدينه لكان من الممكن لمعاوية أن يتسلّل إليه
بأيّ لون من الإغراء كما فعل مع الكثير من الصحابة والتابعين، ممن هم أقدم صلة
بالرسول (ص)، وأكبر سنّاً منه...
وهكذا كان في صفين يجول في الميدان لا يبغي إلا رضا الله ورسوله (ص)، ورضا
إمامه عليّ (ع).
وصل ابن العاص إلى مصر بجيشه، واستعدّ له ابن أبي بكر استعداد البطل
الصامد، وخطب في قومه:
"أما بعد، يا معاشر المسلمين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة،
وينعشون الضّلالة، ويشبون نار الفتنة، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم
بالجنود، فمن أراد الجنّة والمغفرة، فليخرج إلى هؤلاء القوم، فليجاهدهم في الله.."
وتقدّم كنانة بن بشر، قائداً على جيش محمد بن أبي بكر، وتقدّم قائد الجيش
الأموي معاوية بن خديج السكوني. وتصاول الجيشان برهة من الزمن، ولكن القوات
الشامية برئاسة ابن العاص، كانت اكثر عدّة وعدداً.
ولما رأى كنانة بن بشر أنّ الجيش الأموي قد طوّقه من كلّ جانب، نزل عن فرسه
ونزل أصحابه، أخذوا يحاربون رجّالة وهو يقول: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:145] ، فلم يزل يضاربهم بسيفه، حتى استشهد رحمه الله.
ووصلت الأخبار إلى محمد بن أبي بكر ـ وهو في جانب يدير المعركة ـ عن مقتل
كنانة، وتفرّق القوم من حوله، ولم تمرّ عليه برهة، حتى بقي وحيداً؛ مما اضطرّ أن
ينتهي إلى خربة، فآوى إليها. ودخل ابن العاص الفسطاط، وأكّد على معاوية بن حديج أن
يقبض على محمد، وفعلاً عثر عليه وهو يكاد يموت من العطش، فقاتلهم قتال الأبطال،
ولكنهم تمكّنوا من القبض عليه، وانتزعوا منه سيفه، وأقبلوا به إلى الفسطاط، حيث
استقرّ فيها ابن العاص.
ووقف الأسير في وسط المجلس، ولكن بقوّة وصبر وثبات، رغم ما أصابه من العطش،
فطلب قليلاً من الماء، فقال له معاوية بن حديج: "لا سقاني الله إن سقيتك قطرة
أبداً، والله لأقتلنّك يا بن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الجحيم والغسلين."
وانتفض محمد صارخاً في وجهه:
"ليس ذلك اليوم إليك، إنّما ذلك الله يسقي أولياءه ويظمي أعداءه، وهم
أنت وقرناؤك، ومن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي، ما بلغتم مني ما
بلغتم."
فقال معاوية: "أتدري ما نصنع بك؟ ندخلك في جوف حمار ميت، ثم نحرقه
عليك بالنار."
قال محمد: "إن فعلتم ذاك بي، فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم
الله، إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها ـ يا معاوية ـ برداً
وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما
جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية بن أبي سفيان،
وهذا ـ وأشار إلى عمرو بن العاص ـ بنار تلظى، كلّما خبت زادها الله عليكم سعيراً."
فغضب معاوية، والتفت إلى ابن العاص، يطلب منه الإذن، فأشار إليه بذلك، ثم
سبّ عليّاً (ع)، وقدّم الصابر المجاهد فضرب عنقه، وقطع رأسه، وأدخل جثّته ـ هو
وابن العاص ـ في جوف حمار وأحرقوه بالنّار.
وأرسل ابن العاص رأسه إلى الشام لمعاوية، فطيف بدمشق بعد أن زين المدينة.
حزن عليه عليّ (عليه السلام) حزناً عميقاً، ثم رثى محمداً وابنه وقلبه
يتفطّر أسى ولوعة، وقال فيما قال:
((ألا وإنَّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظّلم، الذين صدّوا عن
سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجاً، ألا وإنَّ محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله
عليه، وعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت، ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء،
ويبغض شكل الفاجر، ويحبّ سمت المؤمن)).
وقال فيه أيضاً:
((فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحرب جزعي عليه، كان لي ربيباً وكنت
أعدّه ولداً، وكان بي براً، فعلى مثل هذا نحزن، وعند الله نحتسبه)).
وأطلّ النبأ الحزين على المدينة، وروعت عائشة زوج الرسول الأعظم (ص) وأخته،
وجزعت عليه جزعاً شديداً، وكانت في دبر كلّ صلاة تدعو على معاوية وابن العاص، وما
عثرت قطّ إلا قالت:
"تعس معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج!"
أسرع المبشّرون إلى معاوية يحملون له كتاب ابن العاص يخبره فيه عن مقتل ابن
أبي بكر، وكنانة بن بشر، فأذن معاوية بقتله على المنبر، وسر سروراً عظيماً.
يقول الراوي للإمام عليّ (عليه السلام): "يا أمير المؤمنين، ما رأيت
يوماً قطّ سروراً مثل سرور رأيته بالشّام، حين قتل محمد بن أبي بكر."
قال الإمام: ((إنّ حزننا على قتله، على قدر سرورهم به، لا، بل يزيد أضعافاً)).
·
إضافة:
وجدت في "تاريخ مدينة دمشق"
لابن عساكر ج56 ص28 أن الإمام الحسن (ع) قال لمعاوية بن حديج هذا:
((أنت الشاتم علياً عند ابن آكلة
الأكباد؟ أما والله لئن وردت الحوض – ولن ترده – لترنه مشمراً عن ساقه، حاسراً عن
ذراعيه، يذود عنه المنافقين.))
(يتبع / مرقد محمد بن أبي بكر (رض))
مرقد الشهيد "محمد بن أبي بكر"
الصور لمرقد الشهيد السعيد، ربيب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصاحبه،
وأشد أنصاره تشيّعاً له،
الواقع في قرية "مِيت دَمْسِيس" بمحافظة "الدقهلية" في
دلتا مصر، نحو ساعتين بالسيارة من القاهرة باتجاه الشمال (إلى الشرق من مدينة
طنطا).
و "ميت دمسيس" لها أهمية عند أقباط مصر حيث أن فيها مرقد
"مار جرجس" والذي يقام له مولد سنوي يأتي إليه الكثير من الأقباط من
أنحاء مصر.
أما مرقد "محمد" (رضوان الله عليه)، فقد تم العثور عليه سنة
1950، حفظه الله تعالى بـ "صخرة" فوقه، وكان هناك لوحة بخط كوفي كتب
عليه اسمه...
ولم يتم الاهتمام به إلى سنة 1999، حيث تم بناء "المرقد" مع
شباك، والصخرة إلى جانبه، وحول المرقد مساحة تكفي لصلاة ربما 200 مصلّ.
(حيث زرناه قبل سنوات، ودعونا عنده، وساعدني خادم المرقد على الاستلقاء على
تلك الصخرة الجميلة!)
وتم بناء "مسجد" فوقه، تقام فيه الصلوات الخمس.
رضوان الله وتحياته ورحماته على ذلك الشاب الذي قارع الرجال، بل أشباه
الرجال، دون أن ينثني لحظة عن الحق الذي عرفه في سيده ومولاه مولى المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام).