في حوار بينه وبين شقيق البلخي أحد الصوفية المعروفين في بغداد يلخص الإمام جعفر الصادق(ع) العلاقة بين الإنسان المؤمن وربه وبينه والناس.
قال الصوفي: "نحن إن أُعطينا شكرنا وإن مُنعنا صبرنا".
فأجابه الإمام(ع): ‹‹الكلاب عندنا في المدينة –أي المدينة المنورة- كذلك تفعل!››
فسأله الصوفي:" يا بن بنت رسول الله ما الفتوى عندكم؟"
قال الإمام(ع): ‹‹إن أعطينا آثرنا وإن مُنعنا شكرنا››
ما أروع هذه الكلمة القصيرة التي تحوّل العلاقة بين الإنسان وربه وبينه وبين أخيه الإنسان من علاقة مصلحة إلى علاقة أكثر عمقاً تدل على نظرة واعية لحكمة وجود الإنسان من جانب وعلى كيفية تعامله مع الظروف الحياتية من جانب آخر.
إن أُعطينا آثرنا:
يظن البعض، مثل هذا الصوفي، أنه قضى ما عليه من حق ربه إذا شكره في حالة الرزق، وفي هذه الحالة فحسب. فالمعادلة عنده هي أن الله هو الرازق والعبد هو الشاكر ليس إلاّ. في حين أوضح له الإمام الصادق(ع) إن هذا المنهج لا يرتفع بالإنسان إلى أكثر من مستوى الحيوان الذي يشكر الله على ما يرزقه –بطريقته التي علمه إياها خالقه ﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾(النور41)، وإذا قدّر الله عليه الرزق لم يكفره كما يفعل الكثير من البشر، بل يصبر حتى يأتيه الرزق.
أما المنهج الذي يرتقي بالإنسان إلى مستوى الخلافة التي منحه الله تعالى إياها فهو المنهج الذي يتخلص فيه الإنسان من الأنانية والفردية ويفكر بأخيه الإنسان ولا يبخل عليه فيما رزقه الله تعالى سواء أكان هذا الرزق من المأكل والمشرب والملبس أو كان من العلم والحكمة والحلم وغيرها، فلا يبخل عليه في نصح أو تعليم أو غير ذلك مما يحتاج إليه الناس. فإيثارك أخيك الإنسان يمنحك السعادة في الدارين: ففي الأولى تلك الراحة الداخلية وأنت تتغلب على شح نفسك وتصبر على حاجتك فتعطي أخيك الإنسان ما أعطاك الله وتقدمه على نفسك، وفي الآخرة تصل إلى درجة الفلاح، قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر9).
وإن مُنعنا شكرنا:
لئن كان الشطر الأول من كلمة الإمام الصادق(ع) واضحاً، فإن البعض قد يتساءل عن معنى الشكر في حالة منع الرزق. فالمتعارف بين الناس أن الشكر يجب عند العطاء، إما إذا مُنع العطاء فما معنى الشكر، أو لماذا يشكر الإنسان ربه على منه رزقه.
لا شك أن الشكر يكون على منفعة، إذ أنه من غير المعقول أن تشكر على ضرر مطلق لا نفع فهي. لذا، فلا بد أن الإمام(ع) يشير إلى منفعة أو منافع قد لا تراها العين من وراء منع الله تعالى بعض خلقه بعض رزقه، ولنحاول هنا أن نتعرف –من خلال تفكيرنا المحدود- على بعض هذه المنافع.
-
الرزق ربما يأتي في توقيت أفضل:
فكثيراً ما يرزق الإنسان في وقت لا يكون فيه في حاجة ماسة ثم ينفق أو يهدر ما رزق حتى لا يعود معه شيء، فإذا هو محتاج بعد حين ولا يدري كيف يسد حاجته. لذا، فإن منع الرزق قد يكون ادّخاراً للإنسان كي يأتيه في الوقت المناسب لينقذه من ورطة مالية أو يقضي له ديناً أو يسد له حاجة ضرورية.
-
ربما يكون المنع قد منع مصيبة تأتي مع الرزق:
يثور الإنسان أحياناً إذا فاتته فرصة للربح من مشروع تجاري أو غيره وهو لا يدري أن هذا الربح لو جاء كان سيأتي بمصيبة أو مصائب قد تحيل حياته جحيماً فتنغص عليه أياماً التي ظن أنها ستنقلب، بهذا الريح، إلى سعادة دائمة. فكم من رجل جاءه مال وفير ولكن معه مرض خطير، أو ربحت تجارته وازدهرت صناعته ولكن بسقوط أولاده بين مريض وشقي. جاء في الحديث: ‹‹لو كُشف لكم الغيب لاخترتم الواقع››.
-
ربما يكون النفع حفظاً للإنسان من الانحراف:
المال يأتي ومع قوة شرائية خطيرة قد تدفع الإنسان إلى الهلاك. فالقوة الشرائية هذه تفتح للإنسان الطريق أمام ممارسة ما كان محروماً منه لقلة ذات اليد. ولكن غالباً ما يكون ذلك في حمى المحرمات أو ما حولها. فالذي يتعب من الصباح إلى المساء في كسب لقمة عيشه وعائلته لا يملك الوقت لعمل شيء آخر، وقد يكون ما يكسبه يكفي بالكاد من يعيلهم. ولكن إذا توفر له الرزق الذي يمنحه وقتاً للفراغ ويمنح عائلته الفرصة للتمتع بما يستجد من وسائل اللهو واللعب في هذه الحياة الملونة، فقد يضيع هذا الوقت هباء، وقد يقضي هذا الوقت في ممارسة المحرمات التي صارت، بالزرق الذي جاء، في متناول اليد. وحتى إن كان هذا الإنسان المرزوق صلب الإيمان بحيث لا يقع فريسة للغواية فإنه من الممكن جداً أن يصير أكثر شحّة وأكثر حرصاً وخوفاً على الدنيا، وهو ملاحظ كثيراً. فإنه من رحمة الله تعالى، لذلك، أن يقدر الرزق على بعض خلقه ليحميهم من شرور أنفسهم. جاء في الحديث القدسي: ‹‹إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، لو أغنيته لفسد حاله››.
-
ربما يكون المنع تحويلاً للرزق إلى من هو أحوج:
صحيح أن الله تعالى لا يعجزه أن يرزق جميع خلقه بغير حساب ولا يقدر عليهم من رزقه شيء سواء فيما يريدون ويعلمون أو غير ذلك مما لا يخطر على بالهم، إلا أن الكون لا يسير بهذا الشكل، إذ لا بد من رئيس ومرؤوس، وقائد ومقود، وكبير وصغير، وغني وفقير، وذكي وقليل الذكاء، وقوي وضعيف، وكما جاء في التنزيل: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾(الزخرف32). وإلا، صرنا نعيش في جنة الخلد التي ليس فيها عمل ولا نصب، في حين أن الدنيا هي دار التعب والعمل تحضيراً للآخرة. لهذا، لا بد أن يرزق البعض أكثر من غيرهم، ولكن بالعدل، فإن الله أعدل من أن يجعل أحد عباده فريسة للاستغلال. إلا أن الناس هم الذين يفسدون ذلك حتى يوصلون الأمر إلى تخمة البعض يقابلها جوع البعض الآخر، وكما قال أمير المؤمنين(ع): ‹‹ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غنيّ››.
وقد يمر بهذا الأمر زملاء في عمل واحد تذهب الترقية إلى أحدهم دون الآخر رغم أنه قد يكون مستحقاً لها، فلا يتذمر ولا يسخط، بل يشكر الله تعالى إذ قد يكون زميله بحاجة لهذه الترقية منه –سواء كان مادياً أو معنوياً. وبعيداً عن الاختبار أو غيره مما ذكرناه أعلاه، هنا فرصة لأن يمارس هذا الإنسان صفة الإيثار وذلك بتفكيره أن الترقية التي منع منها ربما ذهبت إلى من هو أحوج منها إليها، فيشكر الله تعالى على فعله، فيصير شاكراً ربه مؤثراً غيره على نفسه.
-
المنع اختبار لوعي الإنسان وإيمانه:
وهذا واضح بالنسبة للإنسان المؤمن الذي يعي أن الدنيا إنما هي رحلة قصيرة عليه أن يستغلها للتحضير للحياة الطويلة الأبدية، فلا يلعب ويلهو إلا بمقدار ما يروح به عن نفسه لتنشيطها على العبادة والعمل الصالح في عمارة الأرض وهداية الناس. لذا، إن منع منه الرزق فلا يعد ذلك خسارة، بل على العكس يعده ربحاً لأنه يأمل أن يدّخر الله تعالى له الرزق في الأخرى الأبدية، فما يصنع بهذه اللذات التي تأتي ومعها ما يفسدها، بل أن ما يفسدها غالباً ما يستغرق وقتاً أطول وجهداً أكبر. ولعل لذة الطعام والشراب أفضل مثال على ذلك، بمقارنة ما يستغرقه الإعداد لها من زراعة وحصاد ونقل وتسويق وبيع وتنظيف وطبخ وتهيئة وغسل، ثم إذا هي لذة لا تستمر أكثر من ثوان أو دقائق تنتهي بمجرد أن تغادر اللقمة النصف الأول من اللسان! وبعدها الهضم والتغوط والتنظيف، ولعل هذه اللقيمات تأتي بالمرض في نهاية الأمر!
لهذا، كان علي(ع) يجيب من يلومه على أكل اليابس ولبس الخشن بقوله: ‹‹كان رسول الله(ص) يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا، وإني أخشى إن لم أصنع مثله ألا ألحق به›› ورسول الله(ص) هو الأسوة الحسنة لعلي(ع) ولكل من كان يرجو الله والدار الآخرة كما جاء في الكتاب العزيز.
وأما الإيمان، فإن الإنسان إن كان مؤمناً حقاً فهو يؤمن بأن الملك كلّه لله وهو سبحانه يتصرف فيه كيف يشاء. فإن منعه الرزق فإن ذلك ما يريده الله تعالى، فهو يفرح بما يريده الله تعالى لحبّه لله، وبالتالي يوجب على نفسه الشكر على منع الرزق.
-
المنع تصعيد لعلاقة الإنسان بربه وتجنيبه الغفلة عنه:
يتفق الناس على أن المشاكل والتجارب المريرة والمواقف الصعبة هي التي تصنع الشخصيات القوية التي تعرف ما تريد لأنها تسلّحت من خلال هذه التجارب والمواقف والمشاكل بما تحتاجه من خبرة ومن صلابة تمكّنها من المواجهة ومن مجابهة المصائب والمعضلات. وطالما كانت علاقة الإنسان بربه تشتد، بشكل سلبي أو إيجابي، باستمرار وحتى النفس الأخير من حياته، فإن هذا الجانب –أي الرزق- لا بد وأنه يؤثر تأثيراً مباشراً على هذه العلاقة، لأنه يدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في المشاكل والمصاعب والتجارب التي يواجهها الإنسان في حياته. فإن كان الإنسان مؤمناً على درجة طيبة من الوعي، فإنه يظل متعلقاً بالأمل في ربه في مسألة الرزق لأنه –وببساطة- متعلق بربه في جميع المسائل الأخرى، فنراه يدعو الله في الشدة والرخاء وفي أيام السرور وأيام الحزن وفي جميع حالاته وأحواله. ولا شك أن الإنسان –كائناً من كان- يتجه إلى ربه في الشدة وأيام الحزن أكثر من أيام الرخاء والسرور، لذا فإنه سيتوجه بالدعاء والتضرع والطلب يوم منعه رزقه أكثر، وهذا يقوي علاقته بربه. جاء في الحديث عن الدعاء أن الله تعالى قد يؤخر الاستجابة لأنه يحب أن يسمع دعاء عبده المضطر. وهذا مدعاة للفرح، وبالتاي الشكر، أن يكون الإنسان ممن يحب الله تعالى أن يسمع أصواتهم.
وكلما كان محتاجاً أو طالت مدة حاجته، زادت ضراعاته وطال دعاؤه – بل وزاد تمعنه فيما يدعو ويتضرع به – مما يؤسس حالة ارتباط دائمة مع الله تعالى تجعله يعيش حالة الوعي الدائم وتبعده عن الغفلة وعن أن ينتظم في الغافلين. ولعل الغفلة هي من أكثر الحجب التي تمنع الإنسان من استقبال ألطاف الله تعالى، إذ كيف يعلن أنه يحب الله أكثر من غيره ثم يتوجه بكليته إلى غيره ويغفل عنه؟ أو كما قال الإمام السجاد(ع) في الصحيفة: ‹‹اللهم وَ لي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي وتقطّعت دونها حِيَلي وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك ولا يستغني في طلباته عنك، وهي زلّة من زلل الخاطئين وعثرة من عثرات المذنبين، ثم انتبهت بتذكيرك لي من غفلتي ونهضت بتوفيقك من زلّتي››.
-
المنع ربما يريده الإنسان:
ربما يبدو ذلك غريباً، وهو حقاً كذلك في معظم الحالات وعند الغالبية الساحقة من الناس. ولكن، إن اشتد وعي الإنسان بحيث وصل إلى درجة تحولت عنده بعض الأرزاق إلى عبء، أو تحوّل عنده بعض المنع إلى نعمة كبرى لأنها تحقق له ما يريد من فعل أو إحساس لا يمكن أن يتحقق بوجود الرزق، تحوّل المنع إلى عطاء وصار الشكر عليه واجباً لا لما ذكرنا في أعلاه بل لأنه صار رزقاً يستحق الشكر دون حاجة إلى مقال. مثال ذلك، لو أن رجلاً يعلم علم اليقين أنه لو اشترى جهاز الحاسب الآلي (الكمبيوتر)فإن ابنه سيقبل على الجهاز بكليته بحيث يهمل دروسه ولكنه لا يستطيع أن يمتنع عن شرائه، إن توفر المال اللازم، كونه جهازاً مفيداً وكونه صار موجوداً في كل بيت ولا سيما بيوت أصدقاء ابنه مما يعرضه للحرج، فإنه إن رزق مالاً يمكنه من شراء الجهاز فإن هذا سيكون مدعاة للقلق على أقل تقدير. ولكن إن استمرت حالته المالية لا تسمح بالشراء، أي بقي ممنوعاً من هذا الرزق، فإن القلق لن يحل عليه، وبذا فإن الشكر يصبح واجباً على المنع. بعبارة أخرى: إنقلب المنع رزقاً من راحة البال، وانقلب الرزق إن أتى قلقاً.
وعندما يصل الإنسان إلى مستويات راقية حقاً من الوعي والإيمان ومن نوع الرغبات تتحول عنده المصائب الكبيرة إلى رزق عظيم يستوجب الشكر. وهنا أذكر ما كان يقوله الإمام الكاظم(ع) في سجوده وهو في سجن هارون الرشيد، حيث صار المنع من الرزق –وهو هنا الحرية ولعلها أعظم النعم- سبباً للشكر لأنه حقق للإمام(ع) مراده. قال(ع): ‹‹إلهي، طالما دعوتُك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلتَ فلك الحمد››.