من العقائد التي يلتزم بها شيعة أهل البيت(ع) هي إيمانهم بأن المهدي المذكور في أحاديث الرسول(ص) هو إبن الإمام الحسن العسكري الإمام الحادي عشر، وبالتالي فهو يكمل الإثني عشر إماماً الذين يعتقدون بهم والذين أثبتنا في حلقة سابقة إمامتهم على الناس أجمعين بنصوص جلية من الحديث النبوي، بعد أن أثبتنا وجوب الإمامة كمنصب يرجع إليه الناس بعد وفاة النبي(ص). إلا أن هناك جملة من الاعتراضات، لا يخلو بعضها من محاولات لتسفيه وتسخيف عقول الشيعة نوجزها ها هنا:
أ- كيف صار محمد بن الحسن العسكري إماماً وهو لما يزل في الخامسة من عمره؟
ب- كيف يبقى هذا الرجل حياً طيلة هذه القرون، بل وربما يبقى حياً لمئات وآلاف السنين قبل ظهوره المدّعى؟
ج- ما الفائدة من كل هذا التعقيد، فلم لا يكون المهدي المذكور لآخر الزمان رجلاً يخرج في زمانه فيقود المسلمين إلى النصر الموعود بدلاً من هذا الذي ليس له وجود ظاهر واضح؟
د- كيف يكون المهدي هو من تزعم الشيعة وقد جاء في الحديث أن اسمه يواطئ اسم النبي(ص) واسم أبيه يواطئ اسم أبيه(ص)، أي اسمه محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن؟
هذه جملة اعتراضات القوم على عقيدتنا بالمهدي، ولم يشذ عنها سوى القلة الذين ذهب بعضهم إلى ما تذهب إليه الشيعة في اعتقادها كالعالم الصوفي محي الدين بن عربي وابن حجر الهيثمي. أما غيرهم فقد شذوا عن جميع المسلمين برفضهم فكرة المهدي من الأساس كما فعل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس الشؤون الدينية والمحاكم الشرعية في دولة قطر في كتابه الموسوم: لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد سيد البشر.
صغر سنّه عند بدء إمامته:
فيما يخص صغر سن الإمام عند بدء إمامته حيث كان عمره يوم وفاة والده الحسن(ع) خمس سنوات، فإنه وإن كان ليس معتاداً إلا أنه ليس بالمستحيل لما يلي:
أولاً: إن المسلم يعتقد بقدرة الله تعالى وأنه يقول للشيء كن فيكون، وأن من خلق الكون بما فيه لا يعجزه أن يجعل بعض البشر ذوي عقول ناضجة مكتملة وهم لا يزالون صغار السن.
ثانياً: إن حالة محمد بن الحسن(ع) ليست فريدة من نوعها فقد سبقه في اكتمال العقل في الصغر عيسى بن مريم(ع) الذي كلّم أمه الصديقة(ع) لحظة ولادته، وكلم قومها بلسان فصيح وهو يعلن لهم نبوته ورسالته. وسبقه إلى ذلك يحيى بن زكريا عليه السلام الذي قال الحق سبحانه وتعالى في حقه في سورة مريم: ﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً﴾.
كما سبقه إلى ذلك جده الثاني الإمام التاسع محمد الجواد(ع) الذي صار إماماً وهو لما يزل في الثامنة من عمره، ونفس الشيء حصل مع جده الأول الإمام العاشر علي الهادي(ع) الذي صار إماماً وهو ما بين التاسعة والثالثة عشرة حسب الروايات.
ولا بد أن نفس الشيء حصل مع صبيان آخرين حيث أن كتب التاريخ قد روت بعضاً من ذلك، كما وقد عاصرنا بعض هذه الحالات. فمنها السيد الشهيد محمد باقر الصدر المرجع والمفكر الإسلامي المعروف، حيث صرّح بأنه لم يقلّد أحداً بعد بلوغه، أي صار مجتهداً ملمّاً بكل التفاصيل الفقهية وهو لما يزل غلاماً. روي أيضاً استيعابه وهو صبي للعلوم والفلسفة وغيرها التي لا يستوعبها أقرانه.
ومنها الأخوان الكوريان الأكبر بعمر 7 سنوات والأصغر بعمر 4 سنوات، والإثنان يدرسان في الجامعة والأكبر منهما الأول على دفعته. وماذا يدرسان؟ نظرية النسبية لآينشتاين الذي يعتقد هو بأن من يفهم نظريته في العالم كله أشخاص معدودون!
ومن هذه الحالات صبي روسي عمره 9 سنوات نال الدكتوراه، وآخر أميركي عمره 12 سنة نال الدكتوراه هو الآخر.
ثالثاً: ذكرت كتب التاريخ الصحيح كلمات ومواقف للأئمة من أهل البيت(ع) تثبت أنهم قد اكتملت عقولهم وهم لما يزالون صبياناً. ولكي تكون الأمثلة أبلغ في الحجة سنأخذها من كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة لابن حجر الهيثمي (وهو كتاب ألّفه لشتم الشيعة).
-
الإمام محمد الجواد(ع): قال عنه ابن حجر ما نصه: ومما اتفق أنه بعد موت أبيه بسنة (كان) واقفاً والصبيان يلعبون في أزقة بغداد إذ مرّ المأمون ففرّوا ووقف محمد وعمره تسع سنين. فألقى الله محبته في قلبه فقال له: "يا غلام ما منعك من الإنصراف؟" فقال له مسرعاً: ‹‹يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك وليس لي جرم فأخشاك والظن بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له››. فأعجبه كلامه وحسن صورته فقال له: "ما اسمك واسم أبيك؟ فقال: ‹‹محمد بن علي الرضا››، فترحّم على أبيه وساق جواده. وكان معه بزاة للصيد، فلما بعد عن العمار أرسل بازاً على دراجة فغاب عنه، ثم عاد من الجو في منقاره سمكة صغيرة وبها بقاء الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب، ورأى الصبيان على حالهم ومحمد عندهم ففرّوا إلا محمداً. فدنا منه وقال له: "ما في يدي؟" فقال: ‹‹يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكاً صغاراً يصيدها بازات الملوك والخلفاء فيختبر بها سلالة أهل بيت المصطفى››، فقال له: "أنت ابن الرضا حقاً"، وأخذه معه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه، فلم يزل مشفقاً به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنّه. ثم ذكر ابن حجر عزم المأمون على تزويجه من ابنته، وجزع العباسيين من ذلك وأنهم احتجوا عليه بصغر سنه فجيء بالفقيه يحيى بن أكثم ليختبر الإمام(ع) ليسقطه من عين المأمون، فأفحم الإمام ابن أكثم حتى قال المأمون لبني العباس: "قد علمتم ما كنتم تنكرون"، ثم زوّجه في ذلك المجلس بنته أم الفضل.
-
الإمام الحسن العسكري(ع): ذكر ابن حجر ما نصّه: ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: "أشتري لك ما تلعب به؟" فقال: ‹‹يا قليل العقل ما للعب خلقنا!›› فقال له: "فلماذا خلقنا؟" قال: ‹‹للعلم والعبادة››، فقال له: "من أين لك ذلك؟" قال: ‹‹من قول الله عز وجل: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون﴾››؛ ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات ثم خرّ الحسن مغشياً عليه، فلما أفاق قال له: "ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟" فقال: ‹‹إليك عني يا بهلول إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلا الصغار وإني أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم››.
-
الإمام المهدي(ع): قال ابن حجر ما نصه: ولم يخلف (أي الإمام العسكري) غير ولده أبي القاسم محمد الحجة وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة ويسمى القاسم المنتظر قيل: لأنه ستر بالمدينة وغاب فلم يعرف أين ذهب.
فهل هذه عقول أطفال صغار أو عقول رجال بالغين راشدين أراد الله أن يكونوا كذلك ليحملهم أعباء المسؤولية الكبرى خلافة رسول الله(ص) وهداية الناس بشريعته الخاتمة، فكانوا كذلك؟
رابعاً: لم يكن الشيعة يقبلون بأي كان إماماً عليهم، فقد كانوا يرسلون رسلهم وأعيانهم وأهل الفضل فيهم إلى الأئمة(ع) في مختلف أدوارهم سواء كانوا في المدينة المنورة أو بغداد أو سامراء، فيقوم الإمام المعروف لديهم بجمعهم مع ولده الذي سيصير إماماً بعده كي يختبروه بالأسئلة المختلفة، سواء ما كانت منها فقهية أو ما هو إخبار خارق للعادة كأن يخبرهم بالمبالغ التي قدموا بها وتفصيلاتها بحيث يقتنعوا بأن هذا الصبي آتاه الله ما يجعله للإمامة لائقاً ولأعبائها قادراً. فالشيعة لم يكونوا مجموعة من المجانين أو البله يرضون بأي شخص يدّعي الإمامة، بل كان فيهم العلماء والقضاة والشعراء والأدباء والتجار والساسة والقادة سواء من كان معلناً تشيعه أو غير ذلك. وإلا لاختاروا جعفراً بن الإمام الهادي بعد وفاة أخيه الحسن العسكري حيث كان رجلاً بالغاً راشداً، بدلاً من الحجة المهدي(ع) الذي كان طفلاً صغيراً.
وعندما ادّعى جعفر عم الإمام الإمامة بعد وفاة أبيه وسأل بعض الوفود (التي جاءت للتعزية ومعها أموال الزكاة لدفعها إلى الإمام الوريث) أن تدفع له الأموال قالوا له: "إنا لا نسلّم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من أخيك، فإن كنت إماماً فبرهن لنا وإلا رددنا الأموال إلى أصحابها". ثم خرجوا من سامراء ومعهم الأموال فلحق بهم شاب وقال: "يا فلان ويا فلان أجيبوا مولاكم"، فرجعوا ودخلوا على الإمام(ع) فأخبرهم بالمال ومقداره ومن أرسله فدفعوا إليه المال.
خامساً: تشير تصرفات خلفاء بني العباس في زمن الإمام العسكري وبعد موته مباشرة إلى أنهم كانوا مقتنعين بأن محمداً بن الحسن هو الإمام المهدي الذي سيقيم دولة الإسلام العالمية على أنقاض دولة الظالمين فكانوا يخشون أن يكون ذلك في عهدهم فقاموا بما في وسعهم للحيلولة دون ذلك حيث حاولوا القبض على الإمام المهدي(ع) لكن الله نجّاه من كيدهم. فلم يلبثوا أن قبضوا على والدته نرجس التي بقيت في سجونهم لمدة سنتين لاقت فيهما ما لاقت كي تعترف بمكان وجود ولدها، فلم تفعل(رض).
وعندما حاول جعفر عم الإمام المهدي أن يتبوأ منصب الإمامة سخر منه وزير المعتمد وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان قائلاً: "يا أحمق إن السلطان أعزه الله جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتبك مراتبهما ولا غير سلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها". هذا في حين كان من مصلحة العباسيين أن ينصّبوا جعفراً أو غيره لإمامة الشيعة، ولكنهم علموا بأن الله لن يتيح لهم ذلك وأن الشيعة لن يرضوا به.